زوايا لا تطالها الكاميرات

 

 

 

ريم الحامدية

reem@alroya.info

 

في عمق الصمت؛ حيث لا يجرؤ ضوء الكاميرا على الاقتراب، تسكُن أنقى اللحظات… تلك التي تتراقص فيها قلوبنا بعفوية لا تعرف الزيف. هناك، في زوايا الروح الهادئة، تزهر أزهار الحنان بلا شهود، وتُغزل خيوط التعاطف بين الأرواح كوشاح دافئ يحميها من برد هذا العالم المتسارع.

ليست كل لحظة تُلتقط؛ فهناك مشاهد لا تعرف طريقها إلى الصور. نعيش فيها الحياة كما هي، بلا ترتيب، بلا استعداد، فقط بصدف نادرة لا تشبه شيئًا. في هذا العالم الممتلئ بالصور، لا تزال هناك مساحة للمشاعر التي لا تُرى… ضحكة لم تُنشر، حضن لم يُصوَّر، دمعة مسحتها يد خفية. هناك، في الزوايا الخفية التي لا تطالها الكاميرات، تحدث الحياة الحقيقية بصوت خافت، لكنه أصدق من كل ضوء.

هناك حب لا يُعلَن، وعطف لا يُقال، وسعادة لا تُصوَّر. هناك أرواح تنبض بالامتنان لأن العالم، رغم كل شيء، لا يزال يحتفظ بمساحات دافئة لا تصلها العدسات. زوايا لا نرتبها لكنها ترتبنا، لا نضيف عليها مؤثرات لأن أثرها فينا أبدي. تنبض بالتفاصيل الصغيرة التي لا تُؤرشف في السحابة، لكنها تحفظنا من الانطفاء.

نحن لا نعيش لنُوثق؛ بل لنشعر. وأصدق الصور هي تلك التي لم تُلتقط. ففي القلب ألبوم لا يراه أحد، يحمل صورًا لا تظهر على الشاشات لكنها تُعرض كلما أغمضنا أعيننا: صورة لك وأنت تضحك من أعماقك، صورة لابتسامة أمك وهي تُخفي تعبها، صورة لأب يربت على كتفك دون أن يقول شيئًا… لكنه قال كل شيء.

كم مرة تمنيت لو كانت الكاميرا مفتوحة لتحتفظ بتلك اللحظة؟ ثم أدركت لاحقًا أن جمالها كان في كونها غير مصوّرة وغير مكررة. ما يُصوَّر قد يُنسى، وما يُشعَر به لا يُنسى أبدًا. ليست كل لحظة عظيمة تُعلن عن نفسها، أحيانًا تمرّ اللحظات الحقيقية بهدوء عجيب؛ صمت بينك وبين من تحب، لا يحمل كلمات لكنه يحمل ارتياحًا لا يُوصف. الحنان حين يُعطى بصمت، والتعاطف حين يُقال في نظرة… لا تُوثقها التكنولوجيا؛ بل تحفظها الذاكرة التي تشعر أكثر مما ترى.

لا توجد صورة لتلك اللحظات، لا توثيق، لكنها كانت الأجمل بلا شك. كانت الحقيقية التي نعيش من أجلها حتى دون أن ننتبه. كل لحظة لم تُصوَّر بقيت أنقى، وكل لحظة لم تُنشر ظلت أعمق. لكل من ظن أن الحب يُقال… الحب يُشعَر. يُشعَر في الزوايا الصغيرة، حين لا أحد يرانا لكننا نكون تمامًا كما نحن.

الكاميرات تلتقط الواجهة، لكن الحياة الحقيقية تحدث خلف اللقطة، حين تُطفأ الأضواء ويبدأ المشهد الأعمق. هل تتذكر أول مرة شعرت فيها أنك محبوب؟ لم تكن صورة مزينة، ولا جلسة مصوّرة بعناية، بل كانت في نظرة صادقة، في صوتٍ مرتبك، في دعاء لم تسمعه لكنه أنقذك.

في الزوايا التي لا تطالها الكاميرات، تنمو اللحظات كما تنمو النجوم في السماء. وحين تسقط الكاميرات، يبقى القلب شاهدًا على دمعة لم تُرَ، وضحكة لم تُسجَّل، وهمسة لم تُنشر، لكنها غيّرت فينا شيئًا لا يُنسى. هناك، في زوايا الظل، بعيدًا عن أضواء الفلاش، تعيش الحقيقة الحرّة… أننا لا نحتاج عدسة لنُحب، ولا فلاشًا لنشفق، ولا توثيقًا لنضحك ونبكي ونرأف.

نعم، هناك أرشيف لا يسكن في الهاتف، بل يسكن في الروح… حيث يُحفظ كل ما كان صادقًا.

وإذا كان للصور أرشيف، فإن للمشاعر ذاكرة. وفي هذه الذاكرة، يحتفظ القلب بألبومه الخاص، يعرضه في لحظات السكون، حين نحتاج أن نتذكر أننا كنّا بخير، حتى دون أن نُوثِّق.

لا تنسَ أن تترك مكانًا في قلبك للحظات التي لم تُصوَّر… فبعض اللحظات لا تحتاج إلى شاهد، يكفي أنها كانت صادقة.

ربما نحن لا نعيش للكاميرا؛ بل نعيش لنتذكر أننا بشر، وأن أجمل ما عشناه كان في الزوايا التي لم تصلها العدسة… لكنها وصلت القلب، فلنترك شيئًا للحياة أن تعيشه دون شهود، للحب أن يقال دون صورة وللمشاعر أن تنضج في الظل بعيدًا عن فلاشات التوثيق، لذا لاتقلق إن لم توثق كل شيء فالحياة الحقيقية لا تعلق على الحائط؛ بل تعيش فيك.

الأكثر قراءة