الصمت.. لغة الحكمة والسلامة

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري

 

عُرِفُ عن العرب أنهم يجلّون الصمت ويتركون الكلام إلا فيما ينفع معتبرين ذلك دلالة على الحكمة ورجاحة العقل، ويظهر ذلك في حكمهم وأمثالهم وأشعارهم المعروفة، وليس أدل على ذلك من القول المعروف" إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، وقد قيل في الأمثال" ربّ كلمة تقول لصاحبها دعني".

وقد ورد في أصل هذا المثل أنّ ملكا صعد على صخرة كبيرة وكان معه أتباعه، فقال أحدهم: لو ذبح إنسان على هذه الصخرة، فمن أي جهة سيسيل دمه؟ فقال الملك: اذبحوه وللنظر من أي جهة سيسيل دمه؟ فبسبب ثرثرة هذا الشخص وكلامه الذي لا داعي له عرّض نفسه للتهلكة ولاقى حتفه، والحق أنّ ثمن إرواء شهية الكلام لدى البعض قد يكون باهظا فكم قد ندم أشخاصٌ على زلة لسان تسببت لهم في أفدح الخسائر من فقد وظيفة أو قطع علاقة أو افتضاح أمر كان مستوراً والعكس كم من أقوام عرفوا بمهابتهم وقوة شخصيتهم وتأثيرهم البالغ فيمن حولهم لا لشيء إلا لهدوئهم وسمتهم وتواضعهم وقلة كلامهم ونبل مبادئهم وحسن أخلاقهم.

وقد أمرنا الباري عز وجل بالصمت والخشوع في أسمى عبادة فرضها علينا وهي الصلاة فقال عز وجل "وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ" (البقرة: 238) فقد ورد في بعض التفاسير أنها نزلت لتنهى عن الكلام في الصلاة، كما أورد القرآن الكريم في معرض ذكر قصة السيدة مريم العذراء عبرة بالغة الدلالة لأهمية الصمت، فعندما حملت وأنجبت بطريقة غير مألوفة لدى الناس أمرها ربها بأن تواجه انكار قومها عليها بالتزام الصمت فقال: "فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"( مريم: 26)، فالتوجيه الرباني لها كان أن تترك المجادلات والنقاشات العقيمة معهم، وفي السنة النبوية الشريفة توجيهات نبوية صريحة بالتزام الصمت خلقا وسلوكا، ففي الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت،..".

إنّ أخلاق المسلم الحق تجعله يترفع عن سفاسف الأمور، ويبتعد عن الخوض في أحاديث تجر عليه الحسرة والندامة، فيبقى دائم التفكر فيما يقول ويفعل لأنه يوقن أنه "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ "( ق، 18)، والحق إنه اذا تم عقل الإنسان نقص كلامه، وأنّ من كثر كلامه كثر خطؤه، ولله در الإمام الشافعي رحمه الله حين قال:

 وَجَدتُ سُكوتي مَتجَراً فَلَزِمتُهُ

إِذا لَم أَجِد رِبحاً فَلَستُ بِخاسِرِ

وَما الصَمتُ إِلّا في الرِجالِ مُتَاجِرٌ

وَتاجِرُهُ يَعلو عَلى كُلِّ تاجِ

وإنّ مما يؤسف له أن تجد أشخاصا يكثرون اللغو والحديث في كل ناد وحوار ومجلس طلبا للشهرة والظهور، فيعلقون على كل قول ومكتوب ويمارون في كل مقولة ونقاش، ويحسبون أنّه من اللوازم والفروض الواجبة أن يردوا على كل ما يقال وينشر، فيقعون في أخطاء فادحة ويكسبون عداوات هم في غنى عنها، وما علم هؤلاء أن سلامة الإنسان في تجنب الرد والخوض في المهاترات، وقد صدق من قال "لو تحدث الناس فيما يعرفونه فقط لساد الهدوء أماكن كثيرة".

ورحم الله أناسا من الرعيل الأول كان دعاؤهم "اللهم أمتني دون أن يعرف بي أحد"؛ فكان أن عرفهم أهل الأرض والسماء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وخير للمرء أن لا يعرف من أن يعرف بفحش وسقط الكلام وبذيئه، وليكن شعارنا أحسن الكلام وأرقه وألينه، فإن وجهناه لكبير كان يعج بالأدب ويزخر بالتوقير، وإن كان لصغير كان ينضح بالرحمة والرأفة واللين، هذا والله تعالى نسأل أن يرزقنا الحكمة في القول والسداد في العمل.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة