سعيد بن محمد الكلباني
لطالما تغنت المؤسسات التقليدية بفراسة القائد وحدسه الذي لا يخطئ، وهذا في زمن سابق كان تفردًا في القيادة وعنصرًا لا يقارن بما سواه كنتيجة لعالم قليل التشابك وبطيء الإيقاع.
لكن اليوم في خضم التغيرات المتسارعة المدفوعة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة المتولد منها سيول من البيانات أصبح الاعتماد إلى الحدس وحده في قيادة المؤسسات ورسم استراتيجياتها مغامرة غير محددة المعالم والمستوى.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر ظهر ما يُعرف بالإدارة العلمية والتي يستخدم فيها القياس والأرقام لتحسين الكفاءة التشغيلية، تلتها الكثير من التحديثات ومنها الإدارة القائمة على الأدلة لا الحدس وحدة في التسعينات حتى وصلنا للمشهد الحالي الذي فيه فلسفة الإدارة أصبحت تقوم على الاستدلال المبني على البيانات بمختلف أنواعها.
اليوم ودون شكٍ، فرضت البيانات نفسها كمصدر للتخطيط وعنصر كاشف للتميز والابتكار وبناء القيمة التنافسية؛ لأنها ببساطة رغم تعدد مصادرها إلّا أنها تختزل التعقيد في قيم كمية، وتحول التشتت والتنوع إلى أنماط متوازية يمكن معها تقليل الاحتمالات والانتقال إلى سيناريوهات قابلة للفحص والتجريب ومن ثم التطبيق الفعلي.
وعليه، فإن البقاء معتمدين على الخبرة البشرية فقط، يعني أننا نفقد الكثير من الابتكار والكفاءة والدقة وحتى فرصنا التنافسية. ولا غرابة في القول إنَّ القرارات اليوم دليلٌ كاشف عن وعي المؤسسة ببياناتها وقدرتها على قراءتها والذي يمثل بدوره واقعها ومستشرفًا لما بعده.
البيانات هي اللغة التي يتحدث بها المستقبل وتمثل النفط الجديد الذي لا تكمن قيمته في استخراجه وتجميعه، إنما في تكريره وتحويله من مادة خام إلى طاقة دافعة للتخطيط والابتكار واتخاذ القرارات الدقيقة الفعالة.
وفي اعتقادي، تتلخص معظم تحدياتنا في التحرر من المستوى الأول من التعامل مع البيانات والمتمثل في المستوى الوصفي الذي يجيب عن سؤال (ماذا حدث؟) دون الارتقاء إلى الإجابة عن أسئلة لماذا حدث؟ وماذا سيحدث؟ وهذه الأسئلة هي في المستوى المتقدم من هرمية البيانات والتي تمثل التحليل التنبؤي ويتليه التحليل التوجيهي. وهنا لا أقول إنه يجب عدم النظر فيما سبق؛ لأن ذلك خطأ ويفقد المشهد قيمته لأن البيانات التاريخية هي أساس للانطلاق.
ولتبسيط ذلك بالتمثيل، فإن النظر إلى المرآة الخلفية ضروري لفهم محيط المشهد وتلافي الأخطار، لكن النظر في الزجاج الأمامي حتمي للبقاء في المسار والاستعداد للمفاجآت ومن ثم النجاة. وبالإسقاط فإن البيانات التي بين يديك الناتجة عن الأحداث تعطيك الفهم وكشف نقاط القوة والقصور، ومنها تخرج بالبيانات التنبؤية التي تمنحك الرؤية الأكثر وضوحًا للمسارات والتخطيط والقرارات، وتصبح قادرًا على الربط بين عدة عوامل لتستشرف المستقبل.
الاستشراف لا يعني التنبؤ بالمستقبل؛ فكل منهما له مراحله وأُطُره التي يعتمد عليها، لكن بينهما علاقة تكاملية نختزلها في أن التنبؤ يقدم الأرقام لمحاولة تقدير ما سيحدث فعليًا في المستقبل القريب، مُنطلِقًا من بيانات سابقة، أما الاستشراف يعطي المعنى والاتجاه من خلال استكشاف المسارات الممكنة على المدى المتوسط أو البعيد، وليس محاولة معرفة مستقبل واحد. كما إن الاستشراف أكثر اتساعًا من التنبؤ الذي تمثل مخرجاته في مجال معين أحد مدخلات الاستشراف.
وعند النظر إلى مضمون رؤية "عُمان 2040" بأهدافها ومحاورها ومؤشراتها، وما تلاها من توجيهات، فإننا نُلاحظ أن التحول الرقمي والتقنيات الناشئة ليست النتيجة وإنما الأداة التي تحقق الرؤية.
والجودة في التعليم، والكفاءة في الاقتصاد، والرشاقة في الجهاز الحكومي، كُلها مفاهيم تتطلب القياس الدقيق من حيث الكفاءة والجودة للتحقق من أننا في المسار الصحيح ولم نحيد عن الأهداف التي حتمًا ليس سقفها التحول الرقمي.
والواقع يؤكد أن مؤسساتنا تمتلك البيانات، لكن المشكلة ليست في الكَمِّ، وإنما في الفجوة بين جمع البيانات وتوظيفها والذي هو جانب آخر. وما لا يمكن قياسه، لا يمكن إدارته، وما لا يمكن التنبؤ به، يصعب الاستعداد له، خاصة في ظل التغيرات المتسارعة التي تشهدها جميع القطاعات نتيجة الثورة التقنية.
إننا بحاجة ماسَّة للاهتمام بالبيانات للاعتماد عليها في القيادة وللارتقاء إلى الاستشراف الذي يحسن من جودة القرارات، ويقلل المخاطر، ويصنع الفرص لمجرد إدارة للأزمات، وينقل من الانتقال من رد الفعل إلى الفعل الاستباقي المعزز للاستدامة المؤسسية.
ختامًا نقول إن التخطيط يُحسِّن الأداء ويضبط الإيقاع المؤسسي؛ سواء على الجانب الاستراتيجي أو التشغيلي. لكن في الغالب، وفي ظل تغير الظروف يبقى حدود ما نعرفه اليوم. أما الاستشراف الذي هو نتيجة، فإنه يتجاوز تحسين الكفاءة إلى حماية المسار من خلال التحقق من الاتجاه نفسه ومواءمته مع المتغيرات المستقبلية قبل أن تصبح السرعة عبئًا، والإنجاز خطرًا، والنجاح مقدمة لانحراف صامت يصعب الإصلاح فيه.
