الكاتب - حمد الناصري
حَنِق "عِويق " على ديفيد يوسيف، وغضب غضباً شديدًا وهاج وسخط، وصوّب عينيه إلى عين ديفيد يوسيف واحمّرتا كبسرة إلزام، وبدت ملامح وجهه غاضبة، كظُلمة الليل قاتمة، حين رأى نفسه على الرمال وتفاجأ بوقوعه على أرض ليّنة وكأنّها فرغت من السّيل لتوّها، فأغدقتها السماء بعيش واسع لا مثيل له، وتكاثر الأعراب فيها.. وما أكثرها من وثائق مُرسلة وغير مُحكمة، كهذه الوثيقة التي تحدّثت عنها، ونرى لا شيء فيها يُذكر غير الأعراب، ولم تتحدّث عن خياناتكم لبعضكم، وعن الذي تركوا العفّة والعِرض والشرف وساروا إلى رفاهية النفس سوءاً.. لقد تحدّثت عن هادو، وكان بريئاً من أفعالكم، فأبوك يوسيف هود صَاني، هو الذي بدّل وغير الوثائق، وأنّ هادو كان بريئاً منكم.
ـ يا رجل.. دعني أكمل لك جزئية الحكاية، فالحكايات تنقل بعضها وتروي بعضها بسلاسة، قد تزيد عليها ولا تنقصها بمعنى الحكاية باقية.. قد تتفرّع منها جُزيئات صُغرى وتتناسل منها جُزيئات خلّاقة لتستوي مجموع حكايات، مُضَمّنة في هذه الحكاية التي أسردها لك وأكاد أجزم بأنّك تعرفها للمرّة الأولى.
ـ تفضّل هات ما عندك.
حتى إذا ما ركب الأعرابي قارباً من ألواح ودُسر، وحملته الريح إلى وجهته، واكتشف قواقع ضخمة في محيط قاع البحر، تتحرّك بتثاقل، لضخامتها وثقلها، عاد يجرّها ويسحق جلدها على طول القاع، فتهرب القواقع شيئاً فشيئاً حتى لا تكون في شباكه غير ما يستحقه، فإذا ما نظر إلى الشباك تحسّر وضرب على رأسه، فكل شيء انسلخ من شباكه وخرج بلا شيء، حتى أنّ آخر محّارة بين يديه انسلّت إلى البحر وكأنّها ترتدّ إلى أصلها، كارهة صائد المحّار في قاع البحر.
ورويَ على ضوء تلكم الحادثة المُغرضة للصياد، تلتها حادثة على اليابسة، قيل إنّ أعراباً ركبوا جحشاً وتخطّوا حدودنا، فضحك ياكوف من مُحاولتهم، وقال يومها الجحش لا يركبه إلّا جحش مثله، وسكت ولم يمنعهم وكان سُكوته توسعةً.. لكن أعراب الجحش تمادوا وعاثوا نهباً في رمالنا وبحارنا، ومنذ ذلك اليوم، ونحن نجمع قُوانا لأجل أخذ ما اقتطع منّا، فقد أذن الربّ لنا بانتزاع أملاكنا مِمّن حذّرنا منهم، وقد عُرف " ياكوف العظيم " بأنه ملك النشأتين، وهو الذي حذّرنا من الأعراب واعتبرهم أعداءً أينما كانوا، وكيفما بلغوا.؟ وفي كتاب نؤمن به جميعاً، أشار إلى ذلك الحذر المقصود أنه يجب أنْ نحذر منهم ـ أيّ الأعراب ـ لأنّهم انتزعوا رمالنا وبحرنا وأراضينا بغير وجه حق، بل سرقوها يوم كُنّا مساكين مُستضعفين في الرمال والبحار، لا نقدر على شيء، مَغلوبين على أمرنا. وبهذا الحديث في الكتاب القديم للجدّ ياكوف نقرأ هذا النص " سرق الأعراب سرقة لم يسَرقها الشيطان من أنفس الأعراب، وقد تحوّل أكثرهم ـ أيّ الأعراب ـ من إنسانية مرنة إلى شياطين قذرة وإلى مردة عاذوا إليهم، وحدث ذلك وهم يسرقون ويأكلون أموالنا سُحتاً، لا يردعهم أحد، إلا هاتين، ورفع يده وسحب رداءهُ إلى داخل يدهُ، نعم بـ القوة والعصا".
والخلاصة التي لا تتمنى أن تسمعها، أنك مهما سرقت فسوف ترد ما سرقته بالذل والخذلان. أملاكنا وكنوزنا كثيرة في الرمال والبحار وفي السهل والجبل، واعلم أيها الرجل الذي نفاكَ قومك إلى رمالنا بحجّة أنّ أمك سوداء، فـ ياكوف منحك الأمان وأوسع إليك من رزقه، فلماذا تخونه وتسرق ماله؟
وأخيراً نُذكّرك بأنّنا مُلوك عِزاز، أشدّاء أقوياء على الأرض وفي البحر، أكرمناك ومن الذين اتبعوك ولم نحسبك على السواد في شيء. فلا تكن مثلهم، أهلك وأقربائك الذين قالوا لك لا طهارة لكَ ولا نقاء، وقالوا إنك ابن امرأة سوداء، فحرموا أمّك وإبنها من ميراث مُستحق، وخلا بعضهم يتحدّثون، أنّ الأعراب حكاية ونكاية، حكايتهم يُحاجّوننا في أرضنا، ونكايتهم أنهم جاؤوا يُضايقوننا فيما وسّعنا لهم، ويَجرحوا مشاعرنا بلؤم منهم، ويغيظوننا بأعرافهم وقيمهم ولا أخلاق لهم بها.. فكيف تُحرم امرأةً من ميراث زوجها، ويُحرم طفل من مال أبيه، وما ذنبه إذا كان أبوه قد اختار أمَةً سوداء من جواري ما ملكت اليمين.
ولا غرو كان هناك حديث بيننا نحن قوم ياكوف، بأنْ نُهديَك جُزء من رمال أنت عليها، وقد تراجعنا أخيراً، وقررّنا بأنّنا لن نُهديَك شيئاً منها، ما دُمت لا تُريد أن تقوم على من جعلك وضيعاً لا تستحق شيئاً ولا ميراثاً ولا حقاً في الحياة. فلو كنت من القُرود لعرفنا أنّ لا دخل للأعراب في القرود، ولو كنت من الخنازير لقلنا لا دخل للأعراب في خنزير أسود وهم شُقر. ولو كنت جحشاً منهم لما نزعوا منك ميراث أبيك، ولما أكثروا فيك ، القُبح والبشاعة ، أيُعقل أنهم لم يُراعو فيك حُسنَا ولا كرامة ولا شيء جميل أبداً، وظلّوا يقولون فيك ما لم يَقُله أعرابي أصيل في أخيه الأصيل وابن جلدته، ولكنهم أبَوا إلا يظهروك بمظهر الشؤم والنحاسة ، مظهر لم يَظهروا به لأحد غيرهم ، لكن الحقيقة كالشمس على الرمال ، فانظُر ماذا ترى ، أتصبر وتكون أول من يموت مقهورًا على رمال ياكوف أم نرى ما لم نراهُ ، من قبل نرى الأشياء التي أظهروها عليك ، لتتولّد في نفوس مُجتمع الرمال كراهية يسعون إلى تحقيقها كما لو أنّ أحدهم يضع غشاوة سافرة ، كثمن لنزع الحقوق ويذهب حُلمك إلى غير واقع مقبول، منها أنّك ذو دمامة وقُبح ولؤم ، وأخرى كُره الأعراب جميعهم شرقيهم وغربيهم ويُلقون عليك حضيض الجهل بالشيء وكُره أهلك ونقض عاداتهم ونبذ تقاليدهم الساعية إلى خلق وتأسيس قاعدة إيمانية أنّ الحق باقٍ في الرمال إذا ابتعد الرجال عن الأجناس الذميمة التي تخلّقت من وضاعة وكراهة، ليبقى الحسَن الجميل في ديمومة لا بشاعة فيه ولا حِقْد ، ولا توريث إلا للأعراب الأصيلة .
قال " عِويق" بصوت مخنوق:
ــ ولكن ما هو العمل، جماعتي قليلون وأنا ضعيف بهم لقلّتهم، فبأي شجاعة وعُدة وعتاد أواجههم بها؟ فالتحدّي يحتاج إلى قوة، والقوة تحتاج إلى عدّة وعتاد، ولا أحد من جماعتي لديهم خبرة في بحر المرجان، إذا جاءوا من بحر المرجان.
ـ لا تخف ولا تحزن، نحن سنردّها إليك؛ أموالك وميراثك وحقّك الإنساني في بضع سنين. ولنا في ذلك شروط. فهل أنت مُستعد؟
التفت إلى رجاله الذين جاؤوا معه، ونظر في أعينهم الجادة للقتال من أجل استعادة الحق الذي سُلب منهم، ثم صَوّب نظره إلى كبير رمال ياكوف:
ـ أنا موافق، بلا وهن ولا خُذلان، وسأكون عند كلمتي.. فهل أنتم مُتفقون معي، بأنْ يكون أولاد ياكوف هُم الذين يقومون بدلاً عنا؟
وتلكأ ديفيد يوسف.. وقال:
ـ أنا ومن معي جاهزون، ولكن هناك ضرورة ماسّة يجب أن تعرفها جيداً؛ نحن أمة قائمة، وحوارنا مع غيرنا وما يتّفق عليه لا يجري على من يأتي من بَعده.. مثال ذلك أقوم أنا ديفيد يوسيف مُحدثكم، وأتفق على كل شيء، ثم يأتي قائد من بَعدي، ولنسمّه بالاسم، وأشار إلى رجل قريب منه وهو يأتي في المرتبة الأولى من بعده، هذا هو "هادو بن بعريفين بن ياكوف السلام: وقال لا آخذ برأي ديفيد يوسيف، هو لم يخرج عن الاتفاقية أو الوثيقة، لكن له رُؤية فيها وقرار.. والتفت إلى هادو بن بعريفين وقال، أليس كذلك يا هادو.؟
ـ نعم.. فأنا انتسب إلى الجدّ ياكوف مُباشرة وكلمة هادوا لها شأن عظيم ولها قوة خالدة في الرمال وفي السماء وعند الربّ والناس أجمعين، وتُعتبر من القوة العالية السماوية ، فهي إذن قوة مثالية ، ويُقال أنّ المثالية هي النُطفة النقية المُستقرّة في كل نفس بأمر الربّ إلى يوم الموقف الذي نتذكّر فيه كل شيء ويجيء أبينا ياكوف وينظر إلى الربّ ، فتفتح أبواب السماء فندخلها زُمَراً زُمَراً وغيرهم تسوء وجوههم ويقفوا عن باب الطامة الكبرى ، فإذا انفتح باب الطامة الكبرى سِيقَ بهم إليها وهولا يَعون شيئاً ، وإذا لم ينفتح باب الطامة الكبرى جييء بهم بعد ألف سنة من العذاب ، يترددون بين أبواب السماء ولا تُفتح لهم، وهناك في السماء أيام عُمر الواحدة منها كعمر سنين بقاء الإنسان في الرمال ، فإذا توفيت في عُمر سبعين فسوف يُقبل منك الوقوف أمام الباب سبعين أخرى لا ماء ولا شراب ، إنما يُسرب إليك وأنت في اللاوعي كما لو أنّك تشمّ شيئا أو تنظر إليه، فتذهب عنك رغبة الطعام والشراب ثم تقف أمام باب السماء الذي دخل منه أبونا ياكوف ثم يَتبعه أبنائه الأول فالأول والأقرب فالأقرب ذكرا أو أنثى .ذلك يوم الخلود.
بقي " عِريق" ساكتاً لا يتكلّم لا يتحرّك، ولم ينبس بحرف، أهداب عينيه تدور في أعين الجمع المُتحلّق حوله، تُرفرف في المكان كُلّما أراد أن يقول شيئًا، يتلفّت يميناً ويساراً.. ثم استطرد:
ـ لكنّكم تضعون شروطاً قاسية لا يقدر عليها أحدٌ من بني الأعراب ثم تلتفّون حولها ولم تقولوا شروطكم.
ـ من شروطنا أن تقوم بتغيير اسم أطراف كثبان الساحل لبحر المرجان إلى مشيخة تُعرف باسمك، وتتّخذ من رملة أطراف ساحل المرجان الغربي مقرّاً لك، وتجعل الرملة والساحل محطة تزوّد للسفن، وبذلك تتحكّم في مصائر أبناء عمومتك وأحفادهم الحاقدين، وتتخلّى عن كثبان الرمال بحجّة أنّها لأعراب الرملة "رملة قوم ياكوف" وتعذّر إنْ سُئلت بالعودة إليها، وقُل أنّهم استولوا عليها، ولا تُريد أن تدخل في قتال مع أعراب غير أعرابكم وبالتالي لا طاقة لك بهم عدّة وعتاداً.. ونحن بدورنا كقوة لصيقة بالأعراب رمال بني زهران سوف نؤثّر عليهم، لكي تتمكّن من اتخاذ رملة الساحل الغربي محطة للسائرين والعابرين، وتُفرض رسوماً على استراحة العابرين وعلى السُفن كضريبة مفروضة واجبة لكونك ضعيف الحال وضعيف التمكّن لرفاهية قومك الذين اتبعوك من قوم وهْران.. ولا تقول قوم زهْران، وبذلك فأنت تُوجّه ضربة قوية في وجه بني عمومتك من قوم زهران.
وأمّا عن الضريبة الجديدة التي سوف تُفرضها على السفن وعلى الناس الذين يستريحون على أرضك وفي حوزتك، هو كسب لازم على السُفن والعابرين نظير توقّفها على بحر المرجان وساحل الرملة، وعليك أن تُذيع وتنشر أنّ رملة ساحل بحر المرجان تُعرف بـ رملة عِريق" وأنّ على السفن التي تتوقّف على الساحل الغربي لبحر المرجان دفع رسوم مفروضة، واعتبرها مورد رزق للرملة الجديدة "رملة عِريق ".
وبهكذا شأن، قد مكنّاك على رمال وساحل ما لم نُمكّنه لأحد غيرك، لكونك حُرمت من أدنى الحقوق، وسنقف معك ضدّ بني عمومتك، حتى تحصل على ميراث جدّك أو تُصبح أميراً على جميع الأعراب شرقاً وغرباً.
واعلم ـ يا عِريق ـ بأنّ أعراب بني هاد، العريفين من بني ياكوف، جعلوا لك أرضاً ورمالاً وكثبانا وبحراً وساحلاً وذاك الجبل الصغير كأنه عمود مزروع في قاع البحر ، كان ينظر إليه جدّنا ياكوف ، كلما هَمّه أمر ما ، وحين ينشرح صَدره وتتفتّح له الآفاق يعود إلى رملة ياكوف بين أهله وقومه ..ولكنّنا اليوم نُقدّمها لك هدية بالغة الأثر الجميل من بني هاد بن بعريفين بن ياكوف " الرملة والساحل الغربي". وذلك نصيب قوي وكبير، وأن تحصل على شيء خير من أنْ لا تحصل على شيء أبداً وتموت وجماعتك جائعاً مُشرّداً، مُحاصراً بين الرملة والبحر.
قال عويق بهدوء مُلتزم:
ـ وهل تظنّ يا "ديفيد يوسيف " أنّ الخطّة ستنجح مع أعراب بني زهران.. أنا أخشى الصراع مع أبناء عمومتي وأحفادهم، فإذا أقبلوا عليّ فتلك مُصيبة كبرى، خاصة إذا حَوّلت رمال الساحل الغربي لبحر المرجان وأسميتها مَشيخة، وجعلتُ رملة الساحل الغربي مقرّاً للمشيخة ثم اتخذها محطّة للسفن والعابرين، وأفرض على كليهما؛ السفن والعابرين ضريبة عبور أو استراحة وتوقّف.. ثم أطلق عليها اسم مشيخة.. كنوع من التجديد والسيادة.
ـ هذا حقّك، يا "عِويق" فقد كفا ما مضى وما جرى عليك، فصراعك معهم صراع وجود، صراع بقاء، احْمِي نفسك وجماعتك وأرضك. هذا ما أستطيع قوله لك، فإنْ فعلتها، نقف معك، وإنْ خذلتنا فلا نعرفك بعدها.
ـ ولكن.. أنا بدوي، والرمال هي داري والبحر لا شأن لي به، وأيّما صِراع لن يتوقّف إذا بدأ واحتدم، حتّى لو هدنَ المُتخاصمون وتهادنت قوتهم، فسوف تعود ولو بعد زمن طويل.
ـ إذن نحن لن نتركك على رملة قومنا والكثبان الغربية هي لنا، وغداً تكون قوّتنا في مقرّ سُكناك إنْ لم تلتزم بما نُرشدك إليه من صواب. نحن نبحث لك عن ذريعة لتستفيد منها، لتكون غنياً بل وأغنى رجل على رمال الأعراب. وهذه الضريبة مُقابل عبور السفن واستراحة الناس، أموالاً طائلة ستدخل عليك من حيث لا تدري.. ونعدكَ بأنّنا سنكون معك وسنعمل على تطويرها لمزيد من الخير لك ولجماعتك. ولاحظ ما أقول جماعتك ولا أقول قومك، فأنت في مرحلة التأسيس والاستقرار، فإن فزت بالأرض وظفرت بالتمكين، فإنّ الحِكمة سوف تكون رأسها. وستنطلق قيادة التحالف الجديد من هُنا، وسيكون اسم التحالف الجديد "تحالف رمال وهران" وهو يجمع الأعراب جميعهم.. ويكون "عِريق" المرفوض، قائداً للتحالف الجديد.
تحدّث "عِريق "مع نفسه فمَنّتهُ بتقليد منصب في قيادة التحالف الجديد.. انتابه قلق.. تمتم.. ماذا لو تعارضت مبادئ أبناء العُمومة مع المنصب الجديد؟
قال كبير رجال الرّمْلة" ديفيد يوسف" التي عُرفت لاحقاً برمله أولاد يوسيف، وكأنه ينتشل "عِريق" ممّا يهتمّ به:
ـ اسمع يا " عِريق " إني أشعر بخطورة كبيرة، إنْ لم تُنفّذ ما آمركَ به، فقد يُؤسفني أنْ أقول لك: أترك المنصب وتخلّى عن المسؤولية وغادر الرمال.
ـ إلى أين؟
ـ لا نعلم كثيراً ممّا تتردّد فيه، ومن الخطأ الجسيم، أن يكون معيارك هو الخوف والقلق.. نحن قُمنا بأكثر ممّا أُوجب علينا في عقيدة آل ياكوف، وهناك جدل واسع في تغيير هذه العقيدة على عقيدة بن هاد. فـ "بن هاد" هو الذي أبصر الخطأ الجسيم الذي وقع فيه قومه بني ياكوف. وأن "يعرفين" لا يستحق أن يكون مصدراً، ومن يُتخذ كمصدر هو هادْ، فـ "يعرفين" كان يتأمّل عورة أبيه ياكوف ويسترق النظرة خلسة منه ليتلذّذ بمتعة واستهواء.. ومن يفعل ذلك، حقّت عليه لعنة السماء.
وأنا أنصحك كشخص مُحبّ لك، وأنت على عقيدتنا في باطن رُشدك وبك مُطمئنون، وساحل المرجان الغربي، نريده أن يكون مُنطلق القيم والمبادي التي يُؤمن بها الأعراب والتغيير سيكون على يد "عريق".
وتلك هي الأسباب التي تعلمونها، أن تكون قيم ومبادي بني زهران وبني عُوران وبني هاد بثلاثتهم أسس في الرمال والكثبان وفي البحر الشرقي والغربي، وإذا أضفنا إليهم بني عِويق، تكون جماعة "عِويق " رابع الثلاثة.؛ ونحن بني هادْ ، لنا أفكارنا وثقافتنا التي نُؤمن بها كعقيدة راسخة .. أنّ للكون أبعاداً خمسة ، منها الرمال والبحر وآل ياكوف والأعراب الفقيرة " البدو" والخامسة "بني عِويق". يقول جدّنا الأول ياكوف ، أن رجلاً اسوداً من أعراب رملة نجود ، سوف يبني مدينة كبيرة بتاريخها عظيمة ساحرة بجمال تشكلاتها ، عبقة بأسواقها ، جميلة بطرقاتها ، أجواءها روحانية ومزاراتها وجدانية ، تكون مصدراً قوياً لـ نور الهُدى ، تستضيء من نوره ، والشمس والقمر يُكملان بعض ويتبادلان الأدوار فالشمس تسطع في النهار والقمر يُضيء عُتمة الظلام.. والربّ الأعلى لا يظلم أحداً إلّا من اعتدى على القوم الذين يُحبّهم، فقد رأى ربّنا الأعلى أنّ آل ياكوف أحقّ بهذا الحبّ الأعلى، فضلاً عن الناس وتكريماً على الرمال والبحار.
ونحن نقف معك وقفة السماء فلا تردّها خائبة ولا تجعلها سببًا في غضب الربّ ، فينزل الربّ الصواعق علينا نظير ذلك الظُلم الذي أكاد أجزم بأنه ظُلم كالحجارة أو أشدّ قسوة، والظُلم أينما حلّ لا يأتي بخير ، لأنّ من صِفاته الدناءة والحِقد والبُغض بين الناس ، ولذلك ربّنا الربّ الأعلى تنزّهَ عن هذه الصّفات والأخلاق غير المقبولة وقال: " أنا ربّكم الأعلى ولا أظلم أحداً منكم ولو بمقدار نواة تمرة ، ذلكم الغشاء تعرفونه بأنه لا قيمة له ، ولكنّي أتنزّه أنْ أظلم فيه أحد من أجل أحد ".
ونحن آل ياكوف وأولاد هادْ والمعروفين لدى الأعراب بـ الذين هادوا أيضاً ، أبناء عُمومة في الأقدمين ثم تفرّقوا وتمزّقوا وانقسموا وتشتّت كثير منهم، ولم يبقَ سوى جزءاً يسيراً من الذين هادوا في الرملة "رملة ياكوف " وقد انقلب كثير منهم على أعقابهم وارتدوا ، وآذونا في مُلكنا وفي نقائنا وصفاء أنفسنا ، وأصابهم وهن وضعف في عقيدة الذين هادوا ، أو عقيدة بني هاد بن بعريفين بن ياكوف، وقالوا قولاً غليظاً وتولّوا عنّا وكفروا بنقاء صفوة قومنا الذين كانوا في عُلو ومَجد الربّ وأخذوا صفاته وأخلاقه العالية " النزاهة والقداسة " وآثروا على أنفسهم بأن يكونَوا أرباباً في الأرض ورُسلاً للبشر في الرمال والبحر ، وفي كلمة أبينا ياكوف، إذ قال: "ميراثكم من الماء إلى الماء عذب ومالح" ورغم ذلك صَبرنا ولم نضعف ، وأردنا أنْ نُعبّر عمّا يليق بنا من الصّفات النقية.. والذين أشركوا بنا وابتدعوا نصّاً محرّفاً، وقالوا أنّ رجلاً منهم، كان ملكاً في السماء، فأنزله الربّ ليكون مُخلصاً للبشر ومنهم أبناء الذين هادوا، ولم نقبل ذلك منهم، وجاء أحد كبار رجالنا وهو بعرفين بن يوسيف بن هاد بن ياكوف الأعلى، وجمع أمرنا، وقدّم لنا ولده النابغة الذكي، وتحدّث إلينا، وقال دعوهم، لا تفعلوا شيئاً، واعتصموا بحبل أبيكم ياكوف الأعلى، فهو حبل مَتين أنزل معه من السماء ليكون امتداداً من السماء إلى الأرض، ذلك الذي عُرف بعمود السماء في أرض رملة ياكوف العظيم.. وانتصب هذا العمود بقدسيته في أعماق رملة ياكوف. وتضمّ رملة ياكوف بحراً كما جاء في قداسة النصوص على لسان ياكوف العظيم " عمود ينتصب في أعماق الرمال، يكون البحر العظيم بحركم والجبال والهضاب بحوزتكم، وماء عذب يلتقي بماء مالح، يكون الماء ساكناً، وعُمقاً بالغ العُمق هو مركز دوران العمود وقاعدته، تنفتح السماء إلى العمود فيكون في جانبها الأيمن مُتسلطن عليها ومُتحكّم في بحرها وعلى حوافها نخيل وزروع وزيتون ـ أتى بها ياكوف من سماء الرب، فتوسّعت ثمارها في أرجاء معمورة آل ياكوف بحراً ورمالاً وكثباناً وجبالاً.
ويُقال أيضاً أنّ العمود بوابة السماء للرمال وللسماء مخارج إلى الأرض منها ذلك المخرج الذي سيصعد من أحبّه الربّ لينهل من تعاليمه ، فيُلقيها على البشر في الرمال الواسعة والجبال، وما ذلك بكبير على رمال الأعراب والوادي الصغير الذين بسط الربّ لهم ما يشاؤون ، فطغوا في الأرض وتكبّروا استكباراً ، فقد أعطاهم فوق حاجتهم وفوق ما يشتهون ، ورزقهم من حيث لا يعلمون ، وحملهم ذلك على البغْي والطُغيان على بعضهم وسلّط عليهم من العُجم ما لا يطيقون ، فكانوا لهم أشرّ بطراً منهم ، وأركسوهم إلى فتنة أشدّ من فتنتهم ، وقلّبوا قِيَمهم وعاداتهم ومُعتقدهم وتقاليدهم إلى أشنع ما استنكروه على بعضهم وإلى أقبح الأفكار وإلى غطرسة أفعال ذميمة لم يكونوا عليها من قبل .
عُتمة تُلامس كثبان الرمال، ويظهر القمر بوجه مُنكسر بدت على صفحتهِ نُدوش وبعض نَمشٍ لم يكن عليها من قبل.. وتساءل "عِريق" في نفسه.. ما بال الشَمس انصرمتْ فأحرقتْ القَمر ولم يكتمل سُقوطها، أم تلك هي صورة خادعة على أعيننا.
يتبع 28