سلطان بن محمد القاسمي
تُعد قضية الخريجين الباحثين عن عمل من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، وخاصة في ظل التزايد المستمر لأعداد الخريجين مع محدودية الفرص المتاحة في سوق العمل، وهذه المشكلة لا تؤثر فقط على الجانب المهني والاقتصادي للفرد؛ بل تتعدى ذلك لتلامس جوانب حياته النفسية والاجتماعية، مُسببة آثارًا سلبية تتطلب تدخلًا عاجلًا وشاملًا.
فعندما ينهي الطالب سنوات طويلة من الدراسة في تخصص معين، فإنِّه يملأه الأمل في مستقبل مشرق ووظيفة تليق بتعليمه وجهده. ومع ذلك، يواجه العديد من الخريجين واقعًا صعبًا يتمثل في انعدام فرص العمل المناسبة لتخصصاتهم. هذا الواقع يؤدي إلى شعور متزايد بالإحباط والقلق؛ حيث تبدأ الأسئلة تتراكم في ذهن الخريج: لماذا لم أجد عملًا بعد؟ هل كنت مخطئًا في اختيار هذا التخصص؟ هل سأتمكن من تحقيق أهدافي المهنية؟ هذه الأسئلة تؤدي إلى تدهور الحالة النفسية للباحث عن العمل، خاصة عندما تطول فترة البحث دون جدوى.
كما إن الحالة النفسية للباحث عن العمل يمكن أن تتدهور تدريجيًا مع مرور الوقت؛ حيث يشعر الفرد بأنه غير مجدٍ، وأن كل الجهود التي بذلها خلال سنوات الدراسة لم تُثمر. وهذا الشعور بقلة الحيلة والعجز يمكن أن يؤدي إلى تراجع الثقة بالنفس، مما يزيد من صعوبة البحث عن عمل، ويؤثر سلبًا على قدرة الفرد على التواصل الاجتماعي والمشاركة الفعالة في المجتمع؛ فالخريج الذي يظل عاطلًا عن العمل لفترة طويلة قد ينسحب تدريجيًا من الأنشطة الاجتماعية، ويفقد الحافز للاندماج في الحياة اليومية.
هذا الانسحاب الاجتماعي لا يؤثر فقط على الفرد نفسه؛ بل يمتد ليشمل أسرته والمجتمع بشكل عام. وكذلك الأسرة قد تجد نفسها تحت ضغط متزايد نتيجة للوضع المالي المتدهور، مما قد يؤدي إلى توترات داخلية ومشاكل اجتماعية قد تتفاقم إذا لم تتم معالجتها. كما إن المجتمع بدوره يبدأ في رؤية هؤلاء الخريجين على أنهم عبء اقتصادي واجتماعي، مما يزيد من العزلة والتهميش الذي يعاني منه الباحثون عن العمل.
إنَّ الحلول التقليدية، مثل تقديم دورات تدريبية أو ورش عمل، غالبًا ما تكون غير كافية لمعالجة جذور هذه المشكلة. وهناك حاجة مُلحّة لتقييم شامل للبرامج الأكاديمية المُقدّمة في الجامعات والكليات، وضمان توافقها مع احتياجات سوق العمل الفعلية. وهذا يتطلب من الجهات المعنية وضع خطط استيعابية واضحة تهدف إلى توظيف الخريجين في مجالات تخصصهم، مع التركيز على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي اللازم لهم لتجاوز هذه الفترة الصعبة.
ومن الضروري أن يكون هناك تعاون وثيق بين المؤسسات التعليمية، والحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع بأكمله لضمان توفير فرص عمل حقيقية ومستدامة للخريجين. كذلك يجب أن يكون هذا التعاون مبنيًا على رؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز التوافق بين التعليم وسوق العمل، بما يحقق توازنًا مستدامًا يمكن الخريجين من الإسهام في تنمية مجتمعهم وبناء حياتهم المهنية والشخصية.
وعلاوة على ذلك، فإنَّ القطاع الخاص يؤدي دورًا محوريًا في هذا السياق. ويجب أن يدرك أصحاب الشركات والمؤسسات أن استثمارهم في توظيف الخريجين هو استثمار في المستقبل. والشركات التي توفر فرص تدريب وتوظيف للخريجين، تساهم بشكل مباشر في بناء قاعدة مجتمعية قوية ومستقرة. كما يجب تقديم الحوافز للشركات التي تستثمر في توظيف الخريجين من قبل الجهات المختصة في ذلك؛ بما يعزز من دورها في دعم الاقتصاد الوطني ويقلل من نسبة البطالة.
ولا يمكن إغفال أهمية الدعم النفسي والاجتماعي للخريجين الباحثين عن عمل، وتوفير برامج إرشاد نفسي يمكن أن يساعد هؤلاء الشباب على التعامل مع الضغوط النفسية التي يواجهونها، ويمنحهم الأدوات اللازمة لمواصلة البحث عن فرص عمل وتطوير مهاراتهم الشخصية والمهنية. والدعم النفسي لا يقتصر على تقديم النصائح؛ بل يشمل بناء شبكة من العلاقات التي يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة للباحثين عن العمل، وتعيد إليهم الثقة بأنفسهم وبقدراتهم.
إضافة إلى ذلك، يجب أن تسهم وسائل الإعلام بدور إيجابي في تسليط الضوء على قصص النجاح والمثابرة بين الباحثين عن عمل؛ لأن تقديم نماذج إيجابية يمكن أن يلهم الآخرين ويحفزهم على الاستمرار في السعي لتحقيق أهدافهم. كما إن الإعلام يمكن أن يكون وسيلة فعّالة لتغيير النظرة السلبية التي قد تكون موجودة تجاه الباحثين عن عمل، وتحويلها إلى نظرة إيجابية تدعم وتعزز دورهم في المجتمع.
ختامًا.. إنَّ تحسين الحالة النفسية للباحثين عن عمل ليس رفاهية؛ بل ضرورة ملحة تتطلب تدخلًا فوريًا وشاملًا من جميع الأطراف المعنية؛ فالشباب هم عماد المستقبل، وتوفير فرص العمل المناسبة لهم هو أساس التنمية الشاملة للمجتمع. ومن خلال تبني رؤية استراتيجية بعيدة المدى ترتكز على دعم الخريجين نفسيًا واجتماعيًا، وضمان توافق التعليم مع احتياجات سوق العمل، يمكننا أن نضمن لهؤلاء الشباب مستقبلًا مشرقًا يمكنهم من خلاله الإسهام بفعالية في تنمية مجتمعهم وتحقيق ذواتهم.