البيوت التراثية في مطرح

 

 

 

أنور الخنجري

alkhanjarianwar@gmail.com

 

 

 

تُشكَل البيوت التراثية جزءًا مهمًا من فنون العمارة وتعبَر عن حقب زمنية مختلفة، يمكن للمرء متابعة تفاصيلها من خلال دراسة هذه البيوت التي تعكس الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لسكانها على مر الأزمنة، كما إنها تمثل الذاكرة الثقافية والسياسية للمدن التي احتوتها، وتؤرخ لمراحل مختلفة شهدت تحولات جذرية في تاريخها، كما هو الحال في مدينة مطرح العريقة التي احتضنت أسوارًا ومنازل تاريخية متميزة تمثل أنماطًا مختلفة من الإعمار المستلهم من تعدد الثقافات والحضارات التي مرت على المدينة، من حيث توافد أجناس مختلفة من البشر عليها من وجهات عمانية متعددة، ومن مناطق أخرى ما وراء البحار. إن هذه البيوت التراثية هي معالم فريدة لها قيمة فنية كبيرة لو أحسن استغلالها، بحكم أنها تمثل نمطًا معماريًا جميلًا ومتميزًا عن غيرها من المباني أو البيوت العادية.

أغلب هذه البيوت، خاصة تلك الواقعة على الواجهة البحرية، يغلب عليها طابعها المعماري المستلهم من التراث العمراني الهندو- أوروبي الذي كان سائدًا في المناطق الساحلية لشبه القارة الهندية، خاصة في عهد السيطرة الأوروبية على المنطقة، فكثير من هذه المباني تتميز بتقسيمات غير مألوفة في البيوت العمانية التقليدية، من حيث عدد الطوابق وتوزيع الغرف والمرافق الخاصة بغرف الاستقبال والمعيشة ومرافق الخدمة وسكن عاملي المنزل، لكن أكثر ما يميزها هي الشرفات الكبيرة المفتوحة التي تطل على الواجهة البحرية، كما هو الحال مع "بيت البرندة"، وأقرانه في الشبه والتصميم مثل؛ "بيت اللبان"، و"بيت العود" للحاج علي بن عبداللطيف، وبيوت الواجهة البحرية في سور اللواتيا، وبيت التاجر "توبراني"، وغيرها من المباني المجاورة التي كانت قائمة على ساحل حارة الشمال أو البندر عموماً، ناهيك عن البيوت الواقعة في الحديقة الخلفية لمدينة مطرح القديمة، مثل بيوت التجار اللواتيا في نازي موية، وبيوت الخنجي والخوري والشرفي في حلة العرين، و"البيت الشرقي" الذي يقع تحت قلعة مطرح في وادي خلفان، والبيت الآخر الرديف للتاجر طالب بن محمد الزكواني في حلة جيدان، والبيوت الخاصة بالميامنة في حلة الهناء أو تلك البيوت الواقعة في حارة الشمال كبيت الشيخ سعود بن عبدالله الخنجري، والشيخ سالم بن عبدالله الخنجري، وبيت الربان سالم بن عبدالله المنذري، قبطان سفينة السلطان تيمور بن فيصل، (تم إزالته بعد أن كان حتى عام 1977 مقرًا للنادي الأهلي)، وبيت التاجر النوخذة الحاج عبدالفتاح بن محمد صالح المعيني، وربما غيرها من البيوت لم تسعفنا الذاكرة لذكرها الآن، وأغلبها- إن لم يكن جميعها- اصبحت في عالم النسيان، بعد تعرَض أغلبها للإهمال والخراب، وأصبحت مأوى للعمالة الوافدة أو مرتعًا للكلاب والقطط المهملة. إن أغلب هذه البيوت التاريخية مع الأسف استأثر بها من لا يعرف قيمتها التاريخة والفنية، مما مهدّ إلى زوالها كليًا، الّا ما ندر؛ حيث آثر أصحابها بعد شرائها من ملاكها الأصليين استغلالها وتحويلها كمشاريع استثمارية ومحلات ومخازن تجارية نشاز أفقدت المدينة رونقها الجميل وإرثها المعماري الفريد.

ومن بين تلك المباني الجميلة نستذكر عددًا منها، رغم أن أغلبها أصبح أثرا بعد عين في حين مازال بعضها واقفا صامدا في وجه الزمن شامخًا بشموخ من امتلكها، كبيت الحاج عبدالفتاح بن محمد المعيني "بيت النوخذة"، الذي ما زال حفيده يونس المعيني يصارع جاهدًا، باذلًا الغالي والنفيس للاحتفاظ بهذا الإرث التاريخي التراثي المتميز، من خلال الإقامة الدائمة فيه كبيت للأسرة، مع المحافظة على صيانته وترميمه بصورة دورية، ونأمل أن يواصل الأولاد والأحفاد هذا التوجه والاستمرار في الحفاظ على "بيت النوخذة" حيًا شامخًا يُستذكر من خلاله مناقب الآباء والأجداد وتاريخهم الحافل بالعديد من حكايات الزمن البعيد.

نستذكر كذلك منزل السيد ناصر بن حمود البوسعيدي، وكان يقع بجوار جامع الشيخ سالم بن عبدالله الخنجري على ساحل حارة الشمال، وقد بُني هذا البيت على النمط المعماري العماني التقليدي، من حيث مدخل البيت وتوزيع الغرف وتصاميم الأبواب والنوافذ وغيرها من التقسيمات الداخلية، وبالجوار كان هناك أيضا بيت الفاضل سليمان بن عبدالرحيم البلوشي، الذي استخدم لفترة بسيطة في أواخر الخمسينيات كـ "مرآب" لسيارتين كانتا من أملاك إحدى الوجيهات في المنطقة، وفي وقت لاحق خلال فترة الستينيات استخدم هذا البيت كمخزن لحفظ الأخشاب التي كان يأتى بها من بلاد الهند والسند الأخوان الوجيهان محمد وأحمد الخنجي، وما زالت ذاكرتنا تختزل مشاهدة هذا البيت بأم أعيينا ونحن نمر عليه غدوا ورواحا عند التحاقنا للدراسة بالمدرسة السعيدية بمطرح.

كما نتذكر جيدًا حارس مخزن الأخشاب، الوالد- المغفور له بإذن الله- عبدالله بن الحاج شنون، الذي حفظ الأمانة وحافظ على العهدة بكل اقتدار حتى وفاته في منتصف السبعينيات، ثم كان هناك أيضًا بيت الوجيه شهاب بن أحمد بن علي الشيخ المدني، وكان أيضًا متميزًا عن غيره من البيوت بجمالية منفردة من حيث التخطيط والتقسيمات الداخلية، وكان يتكون من جزأين، أحدهما يطل على الواجهة البحرية في حين يطل الجزء الخلفي على الحارة، وكان هذا البيت يتميز بفن العمارة الإسلامية العمانية، وبعد بيعه جزئيًا، تم هدمه واستغلال مساحته كمشروع تجاري، في حين أعيد بناء الجزء الآخر من البيت على النمط التقليدي العماني، ومازال قائمًا حتى يومنا هذا في عهدة أحد الأفاضل الأجلاء الذين يعرفون جيدا القيمة المعنوية والتاريخية لمثل هذه البيوت التراثية.

مما يبشر بالخير أننا نشاهد الآن صحوة، وإن كانت متأخرة نوعًا ما، إلّا أنها صحوة مرحب بها ويشكر عليها هذا الجيل الواعي من وارثي هذه البيوت التراثية واهتمامهم المتنامي بإحيائها وإعادة تعميرها أو صيانتها بما يتناسب لاستغلالها بما تسمح به الظروف كنُزل أو مطاعم أو منافذ تجارية سياحية أو حتى منزل للأسرة، ونأمل أن يكون هناك انفتاح موازٍ من قبل الجهات الرسمية المعنية حول هذا الموضوع والتوسع في تسهيل الإجراءات حيال منح أصحابها الموافقات اللازمة لإعادة إنعاش هذه البيوت وإعادتها للحياة مثل، ما نشاهده حاليًا من تحرك ملموس في هذا الجانب بالنسبة لبيوت الخوري والخنجي والشرفي وكذلك في البيت الشرقي في وادي خلفان، ونأمل أن تطول القائمة لتشمل كافة البيوت التراثية القديمة في كافة حارات مدينة مطرح الشامخة.

كلمة أخيرة.. مؤلم حقًا أن نرى منازل السلف يكتنفها الإهمال من قبل الأبناء الذين من أجلهم اجتهد الأب في بنائها حجرًا على حجر. منازلكم أيها الأبناء هي موضع مهدكم ومرتع صباكم وفيها ذكريات طفولتكم وشبابكم، فأحسنوا إليها واحفظوها من الضياع.

تعليق عبر الفيس بوك