سالم بن نجيم البادي
رحل الرجل النبيل صاحب القلم الشجاع والقلب ناصع البياض، الذي لم يكن يخفق بغير حب الوطن والإنسان والعروبة والإسلام. كان مُتميزًا وصاحب مبادئ لا يتزحزح عنها، ومثقفا من الطراز الرفيع، وكانت مقالاته تصدح بالحق لا يخاف في ذلك لومة لائم.
أخبرني ذات مرة أنَّ إحدى الجهات استدعته وطلبت منه تغيير أسلوبه في الكتابة، لكنه رفض ذلك رفضًا تامًّا وخرج مرفوع الرأس، واثقًا من نفسه، وهو يعلم أنه لا أحد يستطيع أن يجبره على تغيير أسلوبه في الكتابة، ولا تغيير مبادئه وقناعاته، وهدفه في كل الأحوال مصلحة الوطن والمواطن، ثم إنه هو رقيب نفسه، وهو الذي أفنى سنوات عمره في خدمة الوطن، وقد تدرَّج في الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة مقدم في شرطة عمان السلطانية، بعد أن عاد إلى أرض الوطن مع من عادوا من العمل في دول الخليج، وذلك مع بداية النهضة المباركة بقيادة السلطان الراحل قابوس بن سعيد رحمه الله.
وقد شهد له كل من عرفه في العمل بالكفاءة والحزم والإخلاص والتفاني والإبداع والحكمة والرشد، والقدرة على إدارة الأزمات وحسن التصرف في المواقف الصعبة، وشغفه الكبير بعمله. وقد تألم كثيرًا بعد أن أُحِيل إلى التقاعد، وكان دائم الحديث عن التقاعد والمتقاعدين وضعف رواتبهم وقلة الاهتمام بهم، وكتب عنهم مقالات عدة، وكان يحب أن يحوِّر كلمة متقاعد إلى "مت قاعدا"، لكنه أبدا لم يمُت قاعدًا، بل مات شامخًا ومنافِحًا عن القضايا التي يُؤمن بها: قضايا الوطن والإسلام والعروبة والإنسان، فكانت له آراء يجهر بها دون وجل، وهو على دراية تامة بخفايا ودهاليز القضايا المعاصرة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والجماعات والأحزاب المختلفة، ولديه قدرة عجيبة على التحليل العميق، قد تفوق قدرة بعض هؤلاء المحللين الذين تستضيفهم القنوات الفضائية، وأستطيع القول بأنَّ الرجل داهية، وحاد الذكاء، ومدرسة في القيم والمبادئ والأخلاق والنخوة والشهامة والغيرة على الوطن، كان يتصدى لكل من يحاول الإساءة لعُمان عبر المقالات وفي منصة (x)، وفي المجالس وفي مجموعات الواتساب، وبكل الوسائل المتاحة له.
أعرفُ الرجل بحُكم أن والدته من بلدتنا، ومازحته ذات مرة قائلا: "نحن نقرأ لك فقط لأن والدتك منَّا"، ابتسم وهو يعلم أنَّ مقالاته الرصينة تجد القبول والترحيب من كل فئات المجتمع، ودليله في ذلك الصدى الواسع لمقالاته، والتعليقات التي تصل إليه بعد نشرها، وكان سعيدًا لأن الكثير من مقالاته كانت تحصد المركز الأول في القراءة في الموقع الإلكتروني لجريدة "الرؤية"، فكانت مقالاته مميزة وله أسلوبه الخاص، وكان يطعِّم مقالاته باللهجة العمانية القديمة، وكنت أتواصل معه بشكل دائم وهو يتصل بي ليسأل عن والدي الذي يحرص على زيارته دائمًا، خاصة في الأعياد والمناسبات.
وحين اتصلت به أيَّام عيد الأضحى الماضي، وقد منعه المرض من القدوم من مسقط حيث يقيم إلى ولاية ينقل، أخبرته أن أبي يفتقده حتى إنَّه ترك له من المشاكيك ولحم التنور، وفي كل يوم من أيام العيد يقول أبي: "اليوم أنتظر حمد"، وحين أخبرته بذلك بدا متأثرًا وحزينًا، وطلب مني أن أبلغ سلامه إلى والدي، وأن أخبره بأنه بخير وسوف يزوره قريبا.
وكان -رحمه الله- حين يزورنا لا نمل من حديثه، كان في كل أوقاته بشوشا، حلو المعشر، تألفه النفس، يتكلم عن ذكرياته وعن تجاربه الثرية في الحياة، وعن مقالاته والقضايا التي تشغل الناس في المجتمع، وعن رغبته تطوير قريته "حيل العرب" الواقعة شمال ولاية ينقل بين الجبال الشاهقة وفي أعماق واد سحيق، وإعادة الحياة إليها بعد أن هجرها كل سكانها، وقد استطاع الحصول على الموافقة لشق طريق ترابي إلى القرية، بعد أن كان الوصول إليها يتم بواسطة الحمير أو سيرًا على الأقدام، وقام ببناء استراحة صغيرة في القرية، وكان يأمل وصول الكهرباء وكل الخدمات إلى قريته.
كان -رحمه الله- يتابع مقالاتي ويشجعني وينتقدني أحيانا، حتى إنه اقترح عليَّ تغيير صورتي في الجريدة بسبب التمصيرة، فقلت له إني لا أجيد غير هذه التمصيرة، وأختلف معه أحيانا لكنه يبقى القدوة، وهو الذي شجعني للكتابة في جريدة "الرؤية" الرائدة.
وبرحيل حمد بن سالم العلوي، فقد الوطن أحد رجاله الأنقياء الأفذاذ والمخلصين والمدافعين عنه بحماس وحب.. نسأل الله أن يرحمه ويغفر له وأن يُسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.