علي بن مسعود المعشني
في العدوان الثلاثي على مصر العزة والكرامة والتحدي والكبرياء عام 1956، سُئل قائد سلاح الجو الفرنسي حينها عن مصلحة فرنسا في المُشاركة بالعدوان على مصر، فكان جوابه: "أنا أقاتل في مصر كي أنتصر هناك"، وأشار إلى خارطة الجزائر، والتي كانت ثورة نوفمبر المباركة فيها تحرق أقدام فرنسا وأطرافها بدعم سخي من مصر عبدالناصر.
قصة القائد الفرنسي مع العدوان الثلاثي تُشبه تصريح الزعيم فلاديمير بوتين اليوم بشأن استعداد روسيا لدعم كل من له خصومة مع الدول التي تُساند أوكرانيا في حربها.
"طوفان الأقصى" لم يأتِ لنسف مُخططات التطبيع والإبراهيمية والسلام المُزيَّف وغيره؛ بل أتى لمنع تصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية وبثمنٍ بخسٍ، وأتى لتحرير الأمة من سرديات بالية ونظريات صهيونية عقيمة، ومظاهر استلاب وانبهار واستسلام لخير أمة أخرجت للنَّاس!
"طوفان الأقصى" برهن للأمة والعالم، بأن الكرامة والشرف يعلوان ومُقدَّمان على معونات الأونروا، ورواتب اليمنيين، وقانون قيصر على سوريا، وحصار لبنان وإظهاره كدولة فاشلة عاجزة عن انتخاب رئيس أو رفع أكوام القمامة من شوارع وطرقات بيروت!
"طوفان الأقصى" حرَّك ضمير العالم ليس كحركة مناخية أو تعاطف مع ضحايا زلزال أو قطار في جغرافية ما حول العالم؛ بل في تصويب بوصلة الحق نحو فلسطين كقبلة للأحرار ونموذج للتحرر من أغلال السرديات البالية، والعصابات العابرة للقارات، من تجار الحروب وتجار الدماء البريئة، ممن تخصصوا وامتهنوا الاتجار بكرامات الشعوب والعبث بمقدراتها وحقوقها ونهب ثرواتها.
وبالعودة إلى روسيا والقيصر بوتين، فإن "طوفان الأقصى" منح القيصر مبررًا قويًا للبراءة والتحرُّر من جميع قواعد سياسات الوفاق بين الدول الكبرى، والتي كانت فيما مضى تخوض حروبًا بالوكالة وتتجنب الصدام المباشر، وتتوافق في لحظات مفصلية من التاريخ على قضايا بعينها، قد تبدو مستحيلة، كاعتراف الاتحاد السوفييتي (صديق العرب المزعوم) بالكيان الصهيوني، وتوافقهم كذلك في ضرورة تقزيم وتحجيم الزعيم جمال عبدالناصر إقليميًا ودوليًا بشن حرب الخامس من يونيو 1967، بجهد غربي وبتخدير وتطمين سوفييتي غادر لمصر.
اليوم يُشهر الغرب سيفه على روسيا، ويستخدم ضدها جميع قواه ونفوذه وقواته وأسلحته وتقنياته في أوكرانيا، أوكرانيا التي لا تنتمي إلى حلف الناتو ولا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي، وما زالت سارية في عنقها بنود اتفاقية وارسو للاستقلال عن الاتحاد السوفييتي (24 أغسطس 1991) وبشهادة كل من ألمانيا وفرنسا. وجد القيصر بوتين في الأزمة السورية سانحةً تاريخيةً لإعلان ولادة "روسيا البوتينية" بعقيدتها السياسية والعسكرية الجديدة، روسيا التي تستخدم الفيتو السياسي والعسكري حين التخطّي والتعدّي على كيانها ومصالحها في أي جغرافية في العالم، ووجد في غزة فرصة تاريخية كذلك للتحلل من قيود سياسات الوفاق الدولي واتفاقيات جنتلمان بينه وبين الغرب، وعلى الرغم من كل تلك المستجدات على الساحة العالمية، فما زال بوتين متمسكًا بثقافة رجل الدولة في تعامله مع الوقائع والأحداث من حوله وعليه؛ حيث ما زال يُحارب النظام في أوكرانيا ويحافظ على علاقاته ووشائجه مع الدولة الأوكرانية، وما زال يتعامل وفق مقتضيات القانون الدولي وأخلاق الحروب في تعامله مع عربدة وبلطجة الغرب تجاه بلاده وفي جغرافيات العالم.
لسان حال بوتين اليوم يقول: لن ترضى عنك أمريكا ولا حلف الناتو حتى تركع لهم، لهذا يخوض صراعًا وجوديًا معهم على مختلف الجبهات والجغرافيات، واليوم غزة وأخواتها عنوان جديد ووجهات جديدة لفتح جبهات ضارية مع الغرب، وتخفيف جهد المعركة عنه في أوكرانيا.
قبل اللقاء.. يبقى الخطأ الاستراتيجي الكبير لروسيا في صراعها مع الغرب، هو تخاذلها عن دعم مُعمَّر القذافي حين تكالب الناتو عليه عام 2011 باسم "الثورة"؛ فهذا الدعم لو توفر حينها لوفَّر على روسيا اليوم في جبهتي سوريا وأوكرانيا أكثر من نصف جُهد المعركة.
وبالشكر تدوم النعم.