العرب.. بين الازدراء والافتراء

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

أسفر وجه الأحداثِ مؤخرًا عن عددٍ ليس بالقليل من المتحدثين في الشأن العربي وبصفة الجمع لا التخصيص ويتابعهم الملايين، وقد يكون منهم علماء كلامٍ مفوهون وخبراء في التاريخ ومتمنطقون بحجج مقارنات السلوك والمجتمعات والأديان "ويوتيوبيون" يجمعون المقاطع ويؤلفون بينها ثم يجعلونها ركامًا للخروج بمادةٍ عوارها بادٍ على مُحياها المغرر، ولكنه خافٍ عن الشريحة المستهدفة، وقد أجمعوا أمرهم كلهم على الاستهانة بالإنسان العربي وازدرائه وتقزيمه واعتباره من سقط المتاع، ومن الغريب أن تلقى بضاعتهم المُزجاة رواجًا في سوقٍ تعج بالفضائل والنفائس التي قلما تجد إقبالًا، وكأنهم يتلذذون باستصغار العرب وهم منهم بالنَّيل من عزتهم وكرامتهم وقد يصل الأمر بزيادة الإعجاب والتصفيق طرديًا كلما أمعن المتحدث أو الكاتب في لسعهم بسياط قذائعهِ واجترار الأمثلة الساخرة في سياق مهيعهِ.

معظم المفكرين والمثقفين الغربيين- باستثناء المُستشرقين- لا يعون الثقافة التشاركية العميقة التي يتعاطى بها العرب فيما بينهم ويعتقدون أن الحدود الدولية هي سدود حقيقية فاصلةٍ تعزل أُلفة الإنسان قُطريًا عن محيطه العام وتنهيها؛ ذلك لأن الثقافة الغربية السائدة التي قامت عليها دولهم عندما كانت متصارعةً متناحرة قبل الحقبة الرومانية وبعدها وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى افضت بهم إلى تلك الفرديات، وما ألّف بينهم إلّا تغليب المصلحة المادية فقط وقلوبهم شتى وسيعودون إلى سابق عهدهم عند انتهائها.

كُل أو معظم من يتحدث باستخفاف عن الإنسان العربي، وامتهان في صيغة العموم، إنما يتعمد ذلك من خلال إسقاط توجهات الحكومات ورؤاها ومواقفها على الشعوب العربية، وهذه مقاربة مُجحِفة، فهو يعلم أن كثيرًا من الشعوب العربية مغلوبٌ على أمرها، كما هو حال حكوماتهم من تسلط الدول الغربية المُستعظَمة- العظمى- وقد يتحدث بأسلوب التهكم والاستهزاء ويُريد به الإصلاح، إلّا أن هذا جهل مضاعف؛ فهو لا يُصلح شيئًا بقدر ما يهدم الطموح ويخرب الآمال، في مرحلة نحن في أمس الحاجة إلى إيجابيات التعاضد والاتفاق والدعم المعنوي والمؤازرة النفسية.

لقد اعتدنا على إهانة العربي للعربي وكأنه أمرٌ من المسلمات وبات طبيعيًا وهو على النقيض من ذلك لكنه غير مدرك، فقلّما تخلو منه النقاشات الحوارية ذات الصلة القريبة والبعيدة، وكأنما النقاش في صيغهِ المتعددة لا يُستملح ولن يلقى قبولًا وتفاعلًا إلّا إذا طرأت عليه تقريضات بين الحين والآخر تمس كرامة الفرد أو المجتمع العربي وبأقسى العبارات وأشدها وقعًا على النفس، لكن الأمر الطبيعي فعلًا هو أن هذا النهج قد أخرج أجيالًا باتت تصدق وتعتنق الضعف والانكسار ومعتقدة بأنها الأكثر وضاعةً وهوانًا بالمقارنة مع بقية شعوب العالم وفي الواقع هي ليست كذلك، لكن غلب على وعيها نبرة الانهزام والمسكنة التي يسمعونها بشكل شبه يومي منذ طفولتهم.

بعد الكم الهائل من عبارات الانكفاء والتقهقر التي علَّمها بعض العلماء ودأب على نفخ روحها الأدباء وثقف بإحيائها المثقفون ثم وصموا بتجسيدها مجتمعاتنا العربية ظهر لنا على مسرح الأحداث الجاريةِ مؤخرًا شخصياتٍ انتهازية من العالم الغربي لتنفذ من تلك الثغرة التي أحدثناها بقصد أو دون قصد وهو غاية مناها، وتعزف موالها على مقام السخف والسخرية بالتندر على كل العرب بلا استثناء أو تحديد وتتهكم في برامج جماهيرية فكاهية يضحك معها جمهرة الحضور وجماهير المشاهدين، ولا تعنيني تلك الشخصيات المهرجة بقدر مايعنيني الأمر الذي خرج عن نطاقه الإقليمي العربي وبلغ الفكر الغربي إذ إنهم فهموا جيدًا أن السخرية من عربي واحد تعني السخرية من كل العرب بعد أن كانوا لا يعون هذا الربط الثقافي.

يبدو أننا استبدلنا مفاهيم الثناء والبناء بالازدراء والافتراء وتجاهلنا لا إراديًا حوافز الدعم والتشجيع الكبيرة منها والصغيرة، وركنا الى تهميش المعاني الفضيلة المفضية للمحبة والمودة والتآلف بالتقليل من قيمتنا في الكثير من المقارنات الممجوجة، بل أن البعض ممن نحسبهم من المؤثرين على المنابر الإعلامية والإخبارية لا همْ لهم سوى الاشتغال على فضح المجتمعات وكشف أستارها بالتركيز على صغائر الأمور، مضفين مقت مايقومون به على العامة ثم يلقون بحُكمهم جزمًا على مصائر الناس وخواتمها، ولن تلقى نقراتهم طربًا إلا إذا سلكوا بها العربي والعرب، ثم يختمون تجليات فتوحهم المبينة بالمقولة المستهلكة الرتيبة "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم" حتى ينالون فيما بعد الاستحسان المتوقع بينما نالوا من أنفسهم من قبل وهم لا يشعرون.

يجبُ على كل متحدثٍ أو من فوض نفسه بالحديث عن الشأن العربي التفريق بين نُظم الحكومات والشعوب، إذ إن خلط الحديث في الجانب السياسي بعلاته وإخفاقاته لاعلاقة له بالشعوب والتي غالبًا مايتحدث عنها المتحدثون وكأنها هي التي افتعلت وأرادت ذلك، ويكفي ماناله العرب حتى اليوم من أطروحات المهانة وقوافي الاستكانة ولنتوجه إلى الحديث عن الجوانب الإيجابية وما أغزرها، ولننظر إلى الزوايا الحسنة المستجادة وما أكثرها ولنهمل السيئ المستقبح منها إلا ماجاء في باب الإصلاح أو ضرب الأمثلة بغرض الاستشهاد ووضع الحلول، وأخيرًا لكل من يستهدف الشعوب العربية بالذمائم والمثالب نقول: "لدينا مخزون ضخم لا ينضب من المحاسن والمُثل والقيم العليا لم يحظى بها كل شعوب العالم ولم تتحقق له حتى في أكثرها حرية وديموقراطية، وإنه لمن المشين تجاهلها واستبدال الذي هو خير بالأدنى".