ماجد المرهون
عام 1992 وفي مثل هذا الشهر، أرسل مُوظف شركة اتصالاتٍ بريطانية أول رسالةٍ نصية قصيرة إلى هاتف مدير شركة فودافون مُهنئًا أياه بعيدِ ميلاده، لتعود بنا ذكرى هذا الحدث المُعاصر إلى الأصل، وقبل 149 عامًا مع أولُ اتصالٍ هاتفي أجراه الأسكتلندي ألكسندر جراهام بيل عام 1876، ولعلي أعلم أن مُخترع الهاتف كان يتوقع تطوره مستقبلًا دون ريب.
لكنني أُجزم أنه لم يتخيل تحول الرسائل من الكتابة على الورق إلى الكتابة عبر شاشات الهواتف، لأنَّ كل فكرةٍ كانت حينها منفصلة عن الأخرى تقنيًا وإن اتفقتا في مبدأ التواصل عمليًا، فكيف لنا التخيل في بداية تسعينيات القرن الماضي وصول الصورة ومقطع الفيديو إلى الهاتف، ونحطم كل الهياكل الصلبة بالاستحالة والتي لن نقبل مجرد افتراضها ونلقي بالكاميرا وقنوات التيلفزيون فريسة سائغة للرجعية؟!
بعد أول رسالةٍ نصية عبر الهاتف بعام كانت هيلاري كلينتون في ربيع 45 عامًا وتتهيأ لتُصبح السيدة الأمريكية الأولى بدفعِ زوجها بيل كلينتون وعبر عِلاقتِها إلى منصب الرئاسة، ليعزف على آلات السياسة من داخل البيت الأبيض وهو أفضل لهُ من العزف على آلة الساكسفون داخل الأندية بلا طائل، وفي المُقابل تُمهِّد السيدة الأولى لنفسِها الطريق على نغماتِ زوجها المُخدرة للعامة فوق مسارح الجرائد والصحف وقنوات الأخبار، بيد أن الرجل لم يُثبت الجدارةِ المُتوقعة ليبدأ تفعيل الخطة ب للإطاحةِ به وإشغال الرأي العام في قضية التحرش بسكرتيرته مونيكا لوينسكي التي اختفت من المشهد كليًا بعد أن أدت دورها بإتقان.
لا يعلمُ الكثير حينها بأن حكومة الظل التي تُنسق معها الزوجة الطموحة ستتوسل كُل دنسٍ أو لا أخلاقي لتنفيذ مُخططها وعلى رأسها تمويل السيدةِ الأولى وتهيئةِ الظروف لها إلى الرئاسة كأول امرأةٍ تتقلد ذلك المنصِب، ولم يخطر بخَلدها أن الرسائل النصية القصيرة المتواضعة ستتطور لاحقًا إلى ما هو أبعد من خيالها وما يفوق تصورها وكُل مُخططاتِها التنسيقية مع جماعات الضغط واللوبي الصهيوني لتصل إلى تطبيقات مواقع التواصل العابِرة للحدود.
من سوء طالع النُخبة المُسيطرة أن عقد التسعينات سيشهد نسبة خصوبةٍ مرتفِعة، وفي عام 1992 ولِد أول مولود وتلاه الكثير من جيلٍ قادم سيغير كُل المفاهيم التي لم يقتنِصها حراس بوابات "سي. إن. إن" ولا مِقصات "سي. إن. بي. سي"، ولا حتى مجلس حكماء فيسبوك من مراقبي المُحتوى، ولا خطر ذلك الأمر على قلب السيدةِ الأولى حين استلامها للرسائل النصية القصيرة من روبرت مردوخ مالك قنوات فوكس نيوز، ولم يكن في حسبانهم أنهم بعد 33 عامًا سيهرِمون فجأةً في أقل من عامين ومن ضمنهم السيدة الأولى نتيجة حدثٍ جلل يُخرجهم من دائرة السيطرة ويدخلهم في دوامة عدم فهم وتقدير طرق وأساليب تفكير الجيل الناشئ في مرحلة تطور الرسالة النصية إلى تطبيقات إلكترونية، بل إن تشانج لي مين مؤسس "تيك توك" كان أقرب فكريًا إلى تشيلسي كلينتون من أمها هيلاري، ولا يفصله عمره عن أول رسالة نصية قصيرة سوى 9 سنوات فقط، وقد كان يعلم أن تطبيقهُ الإلكتروني موجهًا للعالم خصوصًا الغربي الذي لا يفرِض قيودًا على الإعلام، ومُستهدفًا في نفس الوقت الجيل الجديد الذي بات ينظُر لنظام الاتصالات القديم نظرة رجعية وتخلُّف وان الرسالة النصية لم تعد تصلح إلا للتنبيهات، وهذا ما استقرأناه في خطوط تجاعيد وجه السيدة التي كانت الأولى وتحلم بالرئاسة وهي تبدو مضطربة في آخر ظهورٍ لها وكأنها استفاقت من نومها مصدومةً بسبب كوابيس جزيرة جيفري إبستين.
لقد كانت السرديِّة الأمريكية مُحكمة في السبعةِ عقودٍ الماضية وقادرة على أطباقِ قبضتها والسيطرةِ على احتواء الوعي الشعبي والعالمي، وتوجيههُ في المَسار الذي يخدم النُخبة السياسية المُتحكِّمة وصنَّاع القرار بما فيهِم الرؤساء، مع دعم الاذرع والمُحركات الخفية من خلال السياق الاعلامي، إلا أن هذا النظام بدت عليه بوادر الشيخوخة ولم يعد قادرًا على مُمارسة نفس الاحتواء وعضُل به الأمر اكثر مع ظهور الجيل الجديد الذي سيتابع في العقد الثاني من الألفية الجديدة ما تبُثه مواقع التواصل، وسيُلقي بالإعلام التقليدي ظِهريًا ليُتابعه العدد المتبقي من كبار السن المؤدلجين وحسب ماجرت عليه عادتُهم، وذلك شيء ملحوظ مع اشهر الصحف لديهم مثل وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز؛ حيث بلغت مرحلةِ استجداء التعاطف في تضليلها واضِحة ضمن ما تنشُره مؤخرًا من مُحاولاتٍ شبه يائسةٍ للحفاظ على هيكل السردية المُترنِّح، والمؤشرات باتت شبه مؤكدةٍ على انهياره واكبر دليلٍ على ذلك هو استماتة قوى الضغط الأمريكية والصهيونية على شِراء تطبيق تيك توك بأي ثمن وتهديد منصات التواصل العاملة لديهم، وواقع الامر يشي بحربٍ إعلاميةٍ قذرةٍ لإعادة الجيل المُتمرد إلى بيت الطاعة.
لم يُسعف ذكاء هيلاري كلينتون عند استلامها لأول رسالةٍ نصية قصيرة على هاتفها وحتى عندما تطورت قليلًا مع استخدامها للبلاك بيري ان تستشعر الخطر الداهم وراء ما هو قادم، وقد اعزي ذلك لانشغالها بالتفكير في الرئاسة الذي حجب عنها في تلك المرحلة بُعد النظر كما حجب نظرة امومة طبيعية تستشرفُ بها مُستقبل ابنتها الوحيدة كمثالٍ على الجيل الناشئ، وتتساءل في مدى إمكانية السيطرة عليهم في العقود القادمة وابقائهم في شبكات الوهم الذي تنسُج خيوطه عناكب الإعلام، حيث اعتقدت إبَّانها بأنهم بلغوا حد الكمال من التطور ولا يُمكن تصور او تخيل ما بعدهُ وأنه سيبقى كذلك طويلًا، وكانت هذه الثغرة غير المُدركة قد ولِدت فعليًا عند صنَّاع التقنية، لتُشكِّل ثورة الجيل الرابع تحولًا جذريًا في الصناعة وثقافة المُجتمعات.
لعل ألد اعداء هيلاري هو شدة ذكائها المُشرب بالخُبث والمكر، وهو ما حال دون بلوغها كرسي الرئاسة الذي لهثت وراءه مديدًا بعد مغادرة زوجها للبيت الأبيض، إلا أن المرحلة كانت لا تتطلب المكر والذكاء بقدر ما كانت تستلزم البلاهة والغباء، ولذلك ترشح جورج بوش الابن عام 2007 في الانتخابات الرئاسية ثم يسحقها دونالد ترامب عام 2016 بل انه ذهب إلى اهانتها في اكثر من موقف، لكن اجنحتها لا تكف عن الازيز واحلامها الرئاسية القديمة لا سقف لها وهي في عمرٍ يعادل عمر كيان الاحتلال الإسرائيلي، لتعاود السيدة البالغة 78 عامًا من العمر ظهورها مُجددًا الأسبوع الماضي وقد باتت خارج اللُّعبة في محاولة بائسةٍ لبعث معبودتها الصهيونية إلى الواجهة وتعيد هيكلة الفِكرة التي لم يلتقطها دهائها ايام شبابها، وتشرح كيفية تفكير الجيل الجديد الخارج عن السيطرةِ وعن ولاءات المنظومة العتيقة جراء ما يُتابعه من حقائق اصلية وغير مُغربلة على مواقع التواصل، ولكن يبدو أن المرأة تأخرت قليلًا لانشغالها بتأليف كتابها وما فيه من أكاذيب والمُحاضرات التي تُطرد من بعضها وتقوضت روايتها من أساسها وانهارت وجرفها الطوفان، حتى إذا قال دونالد ترامب أن كل من يتحدث اليوم عن دعم اسرائيل فهو في خطر، ظهرت هيلاري كلينتون وهي تُطقطق على الأطلال.
