"هذان في الدنيا هما الرحماء"

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري

 

يحتفل العالم في الحادي والعشرين من مارس من كل عام بعيد الأم، وحق له أن يحتفي ويحتفل بهذا الرمز الغالي المُضحي المعطاء، فمن أعظم من الأم عطفاً ومن أكثر منها حباً وحناناً؟ الحق أنَّه لا حضن أدفأ من حضنها ولا يد أحنى من يدها ولا قلب أكبر من قلبها، فهي ينبوع جار من الحب والحنان، وهي المربية الناصحة الكريمة التي تعطي بلا مقابل وتحب بلا شروط وتمنح دون انتظار للعوض، ولقد اختصر أمير الشعراء أحمد شوقي هذه المعاني الجميلة والأمومة الدافقة في بيته الشهير الخالد حينما قال:

وإذا رحمت فأنت أم أو أب // هذان في الدنيا هما الرحماء

لذا استحق الوالدان عمومًا- والأم خصوصًا- كل رعاية واهتمام وإحسان وتقدير، ولقد نوّه القرآن الكريم بعطاء الأم اللامحدود وتحملها المشاق والمتاعب من حمل ورعاية للأبناء، وأوجب علينا شكرها وتقديرها على ذلك، يقول الله عز وجل: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" (لقمان: 14)، كما حث الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على حسن رعاية الأم والإحسان إليها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ الناس بِحُسن صَحَابَتِي؟ قال: أمك، قال: ثم مَنْ ؟ قال: أمك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أمك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أبوك". وعند البحث عن المعنى اللغوي لكلمة " الأم" نجد أن:" الأم لكل شيء هو المجتمع والمضم"، وكم أصاب حافظ إبراهيم حينما خصها بقصيدته الرائعة" الأم مدرسة" التي يقول في مطلعها:

الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها

أَعدَدتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ

لا شك أن للأم الدور الرائد في رعاية وتوجيه الأبناء نحو معالي الأمور وفضائل الأخلاق وزاكي الصفات؛ فهي عبر تربيتها الإيجابية السديدة أخرجت للعالم قادة عظماء وعلماء مشهورين وأئمة بارعين في شتى المعارف والفنون والعلوم والآداب، وقد حكى لنا القرآن الكريم السيرة العطرة لأم موسى التي أذعنت لأمر ربها ووحيه الكريم فألقت بابنها موسى في اليم حمايةً له من فرعون وبطشه، إلّا أنها كانت حريصة أشد الحرص على سلامته ونجاته من أي مكروه "وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" (القصص: 11)، ولا تزال كتب السير والتراجم حافلة بقصص الأمهات اللاتي سطرن أسمائهن في سجل التاريخ بأحرف من نور، فها هي الخنساء التي نقف بكل إكبار وإجلال أمام صبرها وجلدها حينما زف إليها خبر استشهاد أبنائها في معركة القادسية، فقالت وهي الأم الرؤوم الثكلى: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأدعوه أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"، ولنا في قصة أم الإمام الشافعي أبلغ الدروس لدور الأم الخطير؛ إذ بتوجيهاتها التربوية النيرة أخرجت للأمة هذا القامة العلمية التي نفعت الأمة بعلمها وحكمها واستفادت منه على اختلاف طوائفها ومذاهبها، والقائمة تطول لهؤلاء الأمهات الماجدات اللاتي سطرن العديد من المفاخر التي ستظل باقية ما بقي الليل والنهار، فلا غرابة أن يقول نابليون: "إنّ الأم التي تهز السرير بيمينها، تهز العالم بيسارها".

وإنّ من القواعد المقررة أنّ عظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم، فقد أشارت الدراسات إلى إنّ دور الأم أشد أهمية من دور الأب وإنّ خسارتها أشد تأثيرا على الطفل من خسارة الأب، وقد صدق من قال: "يظل الرجل طفلًا، حتى تموت أمه، فإذا ماتت شاخ فجأة"، لذا فإن غياب دور الأم من شأنه أن يلحق بالطفل أبلغ خسارة وأفدح مصيبة على المستوى النفسي والسلوكي والصحي.

إلّا إنّه ومن غرائب الحياة وأعاجيب الدهر أن نجد من الناس من يتنكر لهذه التضحيات الجسام، فينسى تعب الأم وسهر الليالي الذي لاقته وهي تحنو عليه وترعاه في مهده وصباه، فإذا ما شبّ عن الطوق وهجر العش الذي يأويه، أهدر حب الأم الغالي في حسابات ضيقة وأصبح قلبه قاس غليظ، فلم يحنو عليها أو يرق لها أو يرحم ضعفها وكبرها، ويتركها وحيدةً لا تجد سوى الفراغ والخواء والعدم، فما أشده من جحود وما أسوأه من سلوك إذ أهان الأم وظلمها" والظلم شر القبائح"، ولهؤلاء نقول إنّ شعور الأم بالمرارة والأسى بعد الذي قدمت ذنب لا يغتفر، وستبقى تلاحقك الخيبات وعذابات الضمير، إذا لم ترجع فورًا إلى الرشد والصواب فتحسن إلى رمز العطاء والإحسان، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

وإني عبر هذه المقالة وفي هذه المناسبة الكريمة أوجه إلى كل الأبناء نداءً صادقًا نبيلًا، وأبعث لهم رسالة دفاقة المشاعر أنّ عليهم أن يضعوا قدر الأم واحترامها على رؤوسهم وأن يخصوها بكل إحسان ورعاية واهتمام، فإن من أراد لأنغام السعادة أن تعزف في حياته وأن يملك مفاتيح وأسرار الرضا والهناء النفسي والتوفيق الإلهي فعليه ببر والديه والإحسان إليهما، فما أسعد المحسنين وما أشقى الجاحدين المتنكرين لكل جميل واحسان، الذين يذكروننا بالمقولة الشهيرة للإمبراطور الروماني الحكيم ماركوس أوريوس الذي قال:" سألتقي هذا اليوم بأشخاص أنانيين جاحدين لكن ذلك لن يدهشني لأن الحياة لا تخلو منهم أبدا"، وليعلم الجميع أنّ تضحيات الأبناء مع آبائهم لن تذهب سدى وستدخر لهم الحياة من المفاجآت السارة السعيدة ما يملأهم فرحة وحبورا ويجعل حياتهم طريقا تطوّقه الأفراح والمسرات.

وختامًا.. نُهدي الأم العزيزة في يوم عيدها باقةً من أزاهير الورد والنسرين، مع دعاء من الأعماق أن يحفظ الباري عز وجل أمهاتنا الأحياء منهن، وأن ينزل شآبيب رحمته وغفرانه للموتى منهن، وأن يسكنهن فسيح جناته مع عباده الأبرار والصالحين، وكل عام والجميع بخير.

تعليق عبر الفيس بوك