الرحيلُ المُرُّ

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

كانت تنتظره كعادتها، إذ لا يغمض لها جفن ولا تقر لها عين إلا بعد أن تتحسس مكانه، وتشعر بوجوده، ورغم أنَّ الزمن قد أخذ جزءًا من بصرها، لكنه لم يستطع أن ينال من عزيمتها في القيام بواجبات الأمومة وأعمال البيت المنزلية، ورعاية الأبناء، رغم تقدم العمر، ورحيل صاحب البيت المُبكر، فقد تحملت وحدها المسؤولية، وأخذت على عاتقها مهام الأب، والأم، وتربية الأبناء والبنات، واللاتي ودعتها إحداهن إلى بيت الزوجية لتهديها أول أحفادها.

كانت تلك النقود القليلة التي يضعها بين يديها المرتعشتين من راتبه البسيط من عمله المتواضع الذي لا يليق بشبابه وعنفوانه، كانت تلك النقود مع المساعدات الاجتماعية هي التي تقيها وتسترها -بعد الله سبحانه وتعالى- وأولادها ذل السؤال، وهوان الحاجة.

أيتها المرأة العجوز يا من تنتظرين وأنتِ تجلسين على هذه الأريكة البالية طوال الليل بعينٍ ساهدة فارقها النعاس، والسماء قد ودعت القمر وبعد حين ستأتي الشمس بيوم آخر جديد. فهذه المرة من تنتظرينه لن يعود متأخرًا كما هي عادته في بعض الأحيان حيث السهر مع رفاق السوء. من تتنظرينه قد رحل دون أن يُقبل رأسك وهو يميل كعادته بجسمه النحيل، ويتعمد أن يبعد فمه عنك، فرائحة تبغه ودخانه كانت تزكم الأنوف.

لقد رحل بلال الفتى الطيب الذي كان يُقابلك برغم الألم والظروف بابتسامة لطيفة، رحل بعد أن اهتز مقود سيارته المتهالكة بين يديه، فتدحرجت سيارته خارج الطريق، وخسر معركته مع البقاء، ولم تفلح محاولات الأطباء اليائسة لإنقاذه.

رحل دون أن يترك امرأة تعتد عليه، أو تلبس برحيله ثياب الحداد، أو يترك أطفالًا يحزنون عندما يعودون بشهاداتهم المدرسية إلى البيت فلا يجدون من يعتمد درجاتهم في الخانة المخصصة لولي الأمر.

رحل بلال وكم من بلال يرحلون وهم ضحايا هذا المجتمع، إذ هم ضحية الفقر والجهل وقلة الحيلة، وغياب ولي الأمر، والرفاق والأصحاب الطيبين الصالحين والعائلة التي تحتضن مراهقة الشباب، ومُغريات المِحن.

يرحلون دون رحمة أو شفقة، ودون أن يهتز لنا طرف، أو يرمش لنا جفن، ونحن نرميهم بسهام ظننا ونتهمهم بالضياع، وفساد الأخلاق، وقلة التربية.

الإحسان ليس فقط في بعض النقود التي نضعها في أيادي هذا وذاك من المحتاجين، وإنما الإحسان أيضًا أن نستوعبهم ونسمعهم وننصحهم، فهم بحاجة إلينا، لأنهم كبقية البشر لهم من الآمال والطموحات، ولكنها سرحت بعد اكتظاظ أجنداتهم بأولويات البقاء.

تبكي أم بلال، وتتذكر من أهداها في يدها أول مرتب يقبضه، وتتذكر من قلدها ميداليته الذهبية، وسلمها مظروفاً به بعض النقود أُعطيت إياه تكريمًا له بمناسبة الفوز بالبطولة المحلية، وحصوله على لقب الهداف لتلك المسابقة، فقد كان فتى موهوبًا في كرة القدم.

تبكي أم بلال، وتنتحب على من وعدها بأن سيبقى معها في هذا البيت، ولن يتركها لتبقى مع جيرانها وفي حارتها القديمة. تبكي أم بلال وهي تتحسس غرفته، إذ لم يتبقَ فيها سوى صور لا تراها، وسرير غاب صاحبه للأبد لينام بعيدًا في مقبرة الحارة، وما أقسى الفقد، وما أصعب الرحيل.

تعليق عبر الفيس بوك