طمع دنيا!!

 

 

د. صالح الفهدي

كيف تأتَّى للسانه أن يطمس الحق عن شريكه، ويغمطه في نصيبه من الأرض المباعة ويقول له صراحةً دون خوف من الله "طمع دنيا"، في تأكيد ثابت بأنه لن يشاركه نصيبه من ثمن الأرض التي اشتراها الاثنان مناصفةً، ثم -كما يحكي لي الصديق المظلوم الحق- لم يتردَّد صاحب العبارة في أن يحلف اليمين الغموس بأن لا حق لصاحبه، فسألت الشريك المظلوم: ألم يحسب حسابها قبل أن يحلف زوراً وإفكاً فتغمسه في ظلماتها؟ قال: وقد غمسته اليمين الكاذبة، فتعرض أبناؤه لحادث، واتصل بي من المستشفى يطلب مني أن أسامحه، ويؤكد أنه سيعيد لي الحق المسلوب، فقلت له -والكلام على لسان الشريك: ما وقع لأبنائك ليس مني في شيء، فأنا أرجو الخير للناس أجمعين، ثم إنه تغافل مرة أخرى، فأصيب بالشلل، وهكذا استمرت المصائب تتوالى عليه وعلى أسرته" (انتهى كلام الصديق المحدِّث).

حين تَعْمَى القلوب بسبب الطمع أو الهوى تغيم رؤية العقل، أو تتعطل إرادته، كما قال صاحب اليمين "طمع دنيا"؛ أي أنَّ عقله يقر بأن ما يقوم به من إجحاف وظلم هو ما يدركه بكل وضوح، ولكن ضميره مشلول، معتل أمام غثاثة الطمع الآدمي المقيت في المال، فبعد أن قطع العهد أمام شريكه، وتباكى ليساعده في شراء الأرض، أنكر الحق بعد بيعها بأثمان باهظة فسولت له نفسه الإنكار ودفعته ليحلف اليمين الغموس، دون أن تريه المصائب التي ستتوالى عليه فيما بعد جراء حلف اليمين.

يقف البعض أمام المصحف ويضع يده عليه ليحلف بحماسة ونشوة انتصار دون أي شعور بالخوف أو التردد؛ ذلك لأن الهوى والطمع والجشع قد غلبت نفسه، فطرحت عليه سؤالاً: ماذا يعني حلف اليمين؟ ولم يجبها بأن حلف اليمين معناه أن طرف القضية لم يكن مدعي الحق عليه، الذي يطلب الإنصاف والعدالة لاستعادة حقه المسلوب، فلقد انتقلت من خصمه الإنسان الضعيف في إظهار البينة ليصبح خصمه الله الجبار القاهر العادل الذي شهد عليه، وعلى إخفائه للحق، وممارسته التدليس والكذب والزيف والظلم، ليريه العلي القدير فداحة ما أقدم عليه من يمين غموس تعني أنه كذب على الله بيمينه فيتولى الله أمره، ويريه العواقب الوخيمة لما فعل، ويسومه سوء العذاب.

لقد شهدنا وسمعنا قصصَ بعض من حلفوا اليمين وكأنها "شربة ماء" قد تسارعت إليهم النوائب والمصائب، فلحقت بهم وأسرهم في ألوان شتى منها الأمراض، أو الحوادث، أو الإعاقات، أو العسر في الحياة، أو الضيق في العيش، أو الحزن والقلق والأسى، وغير ذلك.

ومن المؤسف أنَّ بعض البشر لا يترددون في ظلم الآخرين، ظلماً بيناً صريحاً، وينكرون عليهم حقوقهم، من أجل مال زائل، أو عرض رخيص، ورغم أنهم يسمعون قصص الظالمين الذي يجحدون حقوق الناس، ويحلفون اليمين الكاذبة ببرود فتأتيهم من ربهم الخطوب التي تحطم سعادتهم، وينال أبناؤهم من شرور أفعالهم، إلا أن ضمائرهم ميتة، كما قال المتنبي: "من يهن يسهل الهوان عليه... ما لجرح بميت إيلام".

وإذا كان القضاة يعرفون صفات بعض المترددين على المحاكم، وأنهم يقدمون على حلف اليمين دون تردد فإن على هؤلاء القضاة أن يتحرزوا في دفعهم إلى حلف اليمين لأنهم بذلك قد قطعوا مسار القضية، ودفنوا أدلتها، فكتبت لصالح من حلف اليمين، أما صاحب الحق فلم ينتفع شيئاً من حلف خصمه بل ضاع حقه، ولم تجد مساعيه للحصول على حقه نفعاً.

لقد زرت رجلاً منذ سنوات وهو مقعد، ولا أعلم حتى اليوم لماذا قرأ بلسانه الثقيل الذي لا يكاد يتحرك هذه الآية: "وما ظلمناهم ولٰكن كانوا أنفسهم يظلمون" (النحل:118)، ولكن لم يكن مستبعداً أن يكون ما حدث له بسبب سوء عمله، فإن لم يكن ذلك في الدنيا ففي الآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالله فليصدق" ويقول عليه أفضل الصلاة والسلام: "من حلف على يمين هو فيها كاذب فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة".

"طمع دنيا".. لم ينفع صاحبه الذي حلف بسبب ذلك اليمين الكاذبة حين أصابه الشلل، وتعرض أبناؤه للحوادث، وما زالت تلاحقه المحن والأرزاء والأمراض المختلفة، فليكن عبرةً لمن يقول مثله: "طمع دنيا" ويحلف باليمين الكاذبة للاحتيال والنصب والتدليس على الناس، فانتقام الله عظيم لا يرده شيء، والعاقبة لمن أنصف وعدل ورد الحقوق إلى أصحابها دون مماطلة.