لم يتعلَّم الدرس!

 

د. صالح الفهدي

 

غرَّتْهُ وظيفتهُ فلم يحترم القيم والمبادئ التي أنشأتهُ عليها الجهةِ التي ينتمي إليها وإنما فرضَ هوى نفسه، ومزاج طبعه، فاستغلَّ وظيفته ليعوِّضَ نقصًا في داخله، بمُخالفةِ هذا، وإيقافِ ذاك، دون مبررٍ واضح عدا أنَّه يريدُ أن يُشعرَ نفسه-أكثر من أن يشعر الآخرين- أنَّه صاحبُ سلطةٍ ونفوذٍ، وأَنه يمتلكُ القدرة على التهديد والوعيد، فيشعرُ نفسه بأَنه بذلك سعيد!.

وحينما ناقشتُ أحد المسؤولين في جهته عن تصرفاته الطائشة الرَّعناء، وأُسلوبه المتعالي مع الناس، تنبأتُ له بالقول: إنَّ هذا الموظف المغرور سيقعُ إن استمرَّ في هذا الأُسلوب المتعجرف، وهذه العنجهيَّة المفرطة مع الآخرين، فقال: وقد وقع، ولكنه لم يتعلَّم الدرس!!

"وقعَ ولم يتعلَّم من الدرس" فكم هم الذين وقعوا أمثاله ولم يتعلموا الدرس؟ وما الذي يدفعُ بعض الناس للتمادي في تصرفاتهم غير السَّوية، دون أن يتوقَّفوا للمراجعةِ، أو لتأنيب الضمير؟ يقول الشاعر صفي الدين الحلي:

إِن كُنتَ لا تَدري فَتِلكَ مُصيبَةٌ

أَو كُنتَ تَدري فَالمُصيبَةُ أَعظَمُ

فهل هم لا يدرون بأنَّ تصرفاتهم الحمقاء هي التي أوقعتهم، أم أنهم يدرون ولكنهم يستمرؤون أطباعهم المشينة؟! في كلا الحالتين فإدراكهم أو عدم إدراكهم مصيبة، لأنَّ الله قد ميَّز الإِنسان بعقل كي يميَّز الخبيب من الطيب، والصالح من الطالح، لكن المغرور المتعالى هو من يقمع إشارات العقل، ويضرب بالدروس التي يتلقاها عرض الحائط، كاللِّص الذي يقبضُ عليه متلبسًا في حالةِ سرقةٍ بسيطةٍ لكنه لا يتعلَّم الدرس فيواصل السرقة على نحوٍ أكبر وأوسع إذ تملَّكه الإعجاب الفارط بنفسه، والزهوَ بفهلوته، والإعجاب بشطارته، حتى وقعَ وقعةً لا قومةَ بعدها!.

لقد أورد الله على لسان لقمان الحكيم مجموعةً من النصائح لإبنه تعدُّ دروسًا فريدةً للبشر الذين هم على شاكلة المغرور السابق الذكر، فقال تعالى على لسانه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان]

وفي سورة الإِسراء يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا" (37). والقصدُ هو التواضعُ للناس، ووضع النفس في موضعها الصحيح دون علوٍّ أو نقصان.

أَما هذا الموظف المغرور الذي وقعَ في فخِّ نفسه، تعاظمًا، وتكبرًا، وبطرًا، فإِنه قد سقط دون أن يدري، وتاهَ دون ان يُدرك، فسمعتهُ السيئة قد لطَّخت سجلَّهُ الوظيفي، فأرتبطَ إسمه بطباعهِ المشينة، وقرنت سيرته بسلوكهِ الوضيع، فما الذي جناهُ لنفسه وهذه حاله؟! يرفعُ صوته على الناس وهذا ما شبهه الله بصوت الحمار وهو أنكرُ الأصوات، ويشيرُ إليهم مستهينًا مستحقرًا بيده وهو تصرف المتكبِّرين، ويمشي مرحًا في خُيلاء، وهو سلوك لا يحبه الله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور"، ويصعِّر خده للناس أي يستصغرهم ويحتقرهم، ويقزِّمهم!.

لا يستغني الإِنسانُ عن شهادة الناس فيه، وليس أعظم من ذكرهم إياه بالثناءِ والمديح، كما ليس أسوأ من ذكرهم إياه بالقبيح والمشين: "عن أَنسٍ قَالَ: مرُّوا بجنَازَةٍ فَأَثْنَوا عَلَيْهَا خَيرًا، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجبَتْ، فَقَال عُمرُ بنُ الخَطَّاب: ما وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيتُمْ علَيْهِ خَيرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وهَذَا أَثْنَيتُم عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرضِ" (متفقٌ عَلَيْهِ).

لا تعرف أخلاقُ البشر إلا في ميادين العمل والتضحيات، فهي على المحك، لهذا أقول: "إن أردت أن تعرف أخلاق إنسان فامنحه سُلطة"، فتجربة سجن ستانفورد قد أوضحت ذلك بجلاء إذ أظهرت أخلاق من كانوا ذو سمعةٍ أخلاقية رفيعة فتحوَّلوا إلى وحوش كاسرة بسبب منحهم للسلطة، لكن السلطة لا تفسد أحدًا- كما يظن البعض- بل إن بعض البشر هم من يفسدون السلطة، كما أفسدها الموظف- محور الحديث- بعنتريَّته، واستكباره، وبطره!

وإذا كان قد وقعَ سابقًا، فلم يتعلَّم الدرس وراء الآخر، فإِن وقعةً كُبرى تنتظرهُ إن هو استمرَّ على هذا الطبع الرديء، والأسلوب الدنيء، ووقعةِ المغرور أشدُّ إيلامًا، وأقسى أثرًا.