"عاصفة الأقصى": خارطة جديدة للشرق الأوسط أم نهاية طموحات إسرائيل؟

مرتضى بن حسن بن علي

بتاريخ 2 نوفمبر عام 1917، بعث وزير خارجية بريطانيا أرثر بلفور، رسالته الشهيرة إلى المصرفي البريطاني وأحد زعماء اليهود في بريطانيا البارون روتشيلد، وهي الرسالة المعروفة باسم "وعد بلفور" والذي أدى بعد 31 سنة إلى تشكيل الكيان الإسرائيلي في عام 1948، وكانت هناك أسباب عديدة لقيام بريطانيا بتقديم ذلك الوعد، وتحتاج إلى مقال مُستقل لشرحها.

في عام 1923- أي بعد نحو خمس سنوات من وعد بلفور- كتب صهيوني أوكراني يُدعى زئيف جابوتنسكي، مقالين بعنوان "الجدار الحديدي"؛ حيث رأى أن التوصل إلى اتفاق مع العرب غير ممكن، لأنهم لن يتخلوا عن أرضهم وحقوقهم، وبالتالي فإنَّ الصراع معهم حتمي، وهو ما يتطلب إقامة جدار حديدي يستند إلى بناء قوة عسكرية رادعة بما يكفي لتوليد اليأس في قلوب العرب ودفعهم للتنازل عن فلسطين، وأن السلام سيُصبح مُمْكِنًا فقط بعد إلحاق هزائم عسكرية قاسية بالعرب، لدفعهم إلى القبول بوجود إسرائيل، وعدم جدوى مقاومتها عسكريًا. ومن هذين المقالين انبعثت نظرية الأمن الإسرائيلي قبل إنشاء إسرائيل بـ25 سنة!

فور تأسيس إسرائيل، أشرف أول رئيس للوزراء ووزير الدفاع آنذاك، ديفيد بن جوريون، على بلورة نظرية أمن قومي منبثقة من أطروحة "الجدار الحديدي" لزئيف جابوتنسكي، أخذت في عين الاعتبار قلة عدد سكان إسرائيل مقارنة بسكان محيطها، وصغر مساحتها التي تحرمها من عمق دفاعي. النظرية قامت على أساس أن يكون جيشها من أكبر وأقوى الجيوش في المنطقة مقارنة بعدد سكانها، وذلك بالاعتماد على قوات الاحتياط واعتبار "كل الشعب جيش". واعتمدت نظرية بن جوريون على المرتكزات الثلاثة التالية:

أولًا: الردع: وهي سياسة قائمة على إقناع كافة دول المنطقة، بتفوقها الضخم عسكريًا وإكسابها "هيبة"، تمنع أعداءها من مُهاجمتها وإثارة الخوف في نفوس كل من يُفكر في قتالها، عن طريق بناء قوة عسكرية متفوقة على جميع دول المنطقة، وساعدتها في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية ودعمتها بأسلحة حديثة متطورة، لا تملكها أية دولة أخرى في المنطقة.

ثانيًا: التفوق الاستخباري: بهدف توفير إنذار مبكر يتيح إحباط أي تهديد بشكل استباقي، ويوفر الفرصة لتعبئة الاحتياط في الوقت المناسب للتصدي للتهديدات. ويعتمد التفوق الاستخباري على المصادر المتعددة لجمع المعلومات مثل المصادر البشرية، والاختراق السيبراني، والتنصت الإلكتروني، والتصوير الجوي، والاستفادة من تبادل المعلومات مع أجهزة الاستخبارات الصديقة، للحصول على معلومات تفصيلية حول نوايا الخصم، وحجم قواته، وتسليحها، وأماكن تمركزها، وتحركاتها. ومن أجل ذلك تمتلك الاستخبارات الإسرائيلية 12 وكالة استخبارية ومن ضمنها: فيلق الاستخبارات التابع لأركان حرب الجيش الإسرائيلي. و"أمان": وهو جهاز مهمته مكافحة التجسس، ويتبع شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. وقسم الأبحاث: المختص بتقييم جميع المعلومات الواردة. والاستخبارات الجوية. والاستخبارات البحرية. وفرع الاستخبارات الأعلى التابع للقوات البرية الإسرائيلية.والموساد ومهمته الاستخبارات الخارجية. و"الشاباك": وهو جهاز الأمن الداخلي.

واعتُمِدت نظرية بن جوريون رسميًا من البرلمان الإسرائيلي في عام 2005. لكن قبلها في عام 2000 أصدر البروفيسور والباحث الإسرائيلي في جامعة أوكسفورد المشهورة آفي شلايم كتابًا يتألف من أكثر من 600 صفحة بعنوان "الجدار الحديدي.. إسرائيل والعالم العربي"، وهو كتاب يعتمد على المقالين الذين كتبهما زئيف جابوتنسكي. وفي رأيه أن سيناريو زئيف جابوتنسكي هو ما حدث في الواقع، وجاء تاريخ إسرائيل تأكيدًا لإستراتيجية الجدار الحديدي، غير أن مخاطر تلك الإستراتيجية- حسب شلايم- تمثلت في رفض الزعماء الإسرائيليين التوصل إلى السلام مرارًا وتكرارًا، حتى عندما توفرت الأيدي الممدودة على الجانب الآخر. ويأسف شلاين لتضييع إسرائيل فرص ونوايا السلام التي توفرت من جانب الدول العربية على طول سنوات النزاع الطويلة وبذلت كل الجهود للإبقاء على الفلسطينيين في حالة خضوع دائم لإسرائيل.

في المقابل، نجحت عملية "طوفان الأقصى" في تحطيم الهالة المحيطة بالجيش الإسرائيلي، وتفوّقه التكنولوجي، وأظهرت المقاومة الفلسطينية قُدرتها على التكيف والابتكار، من خلال إحداث زلزال استراتيجي هزَّ أركان الجيش الإسرائيلي وأُسسه وعقيدته، ما أدّى إلى طرح سلسلة من التساؤلات حول الاستراتيجيات المستقبلية للصراع، وكيفية تطور التوازنات الجديدة التي قد تشكل وجهًا جديدًا للمنطقة.

زعزعتْ عملية طوفان الأقصى قواعد المؤسسات السياسية والعسكرية الإسرائيلية على نحو غير مسبوق؛ فالارتباك الذي أصاب دوائر القرار الإسرائيلية على المستويَين السياسي والعسكري، كان واضحًا في ترددها وتخبطها في اتخاذ القرارات، وقيامها بارتكاب عمليات إبادة ومجازر ضد المدنيين العُزل. وتداعيات هذه العملية بعد الحرب، ستكون لها آثار عميقة وطويلة المدى، بغض النظر عن مساراتها المستمرة ونتائجها. وقد تمتد هذه التداعيات لتشمل التحالفات السياسية داخل إسرائيل، وثقة الفرد الإسرائيلي في قدرة جيشه، وربما حتى بعلاقات إسرائيل الدولية وفي كيفية التعامل مع هذه التحديات في السنوات المقبلة. العملية زعزعت الأسس والمفاهيم التي استندت إليها العقيدة العسكرية الإسرائيلية واستراتيجية الردع الذي طورته إسرائيل على مدار عقود.

وقد حذّر عدد متزايد من الخبراء من خطورة توسُّع الصراع في منطقة الشرق الأوسط، مشيرين إلى أن ما يجري هذه المرة، يُنذر بحرب مدمرة واسعة. ويحذر الخبراء كذلك من استهداف مُفاعل إسرائيل النووي واحتمال حصول كارثة إنسانية وبيئية. ويرى بعض الخبراء أن ما يحصل هو "التدمير النهائي للأسس والقواعد القديمة"، وأن المجتمع الدولي يدخل في "عالم بلا قواعد"، وإن أي شيء ممكن حصوله، كما يعتقدون أن الأمريكيين يخططون لإعادة توزيع كبيرة لمناطق النفوذ في الشرق الأوسط؛ لأن اقتصادهم في حالة تدهور باستمرار، وكذلك بهدف إخافة دول النفط في الخليج والشرق الأوسط، إن تجرأت على التحول من البترو-دولار إلى اليوان الصيني، وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى حرب مظفرة جديدة، بحيث تكون موارد تلك الدول في متناولها، لا سيما أن أمريكا الآن تعاني من "عذاب الإمبراطوريات" وأنها تحاول تقليل العجوزات الخطيرة في ميزانيتها بعد أن طبعت وطرحت على مدى السنوات الثلاث الماضية 80% من المعروض النقدي، علاوة على أن الاقتصاد الأمريكي ببساطة غير قادر على تلبية مستوى إنفاق واشنطن، لا سيما وأن بعض الدول بدأت في التخلي عن السندات الحكومية الأمريكية مثل الصين. هذا إلى جانب احتمالية تحوُّل المملكة العربية السعودية والدول الغنية بالنفط الأخرى من البترو-دولار إلى العملات الوطنية، ومن ثم يصبح الدولار غير ضروري. وهنا يجب أن نشير إلى أن "عملية إزالة الدولرة جارية الآن بنشاط في مجموعة بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي؛ حيث تخلت دول هذه المجموعات عن الدولار، ومن ثم انخفضت حصة العملة الأمريكية إلى 20% في الحسابات العالمية".

يضيف بعض الخبراء أن الولايات المتحدة ترغب في "استعادة النظام من خلال البدء بـ"حرب صغيرة منتصرة"، ستدرك في أعقابها جميع الدول أن أمريكا هي رائدة عالمية ومهيمنة. لهذا السبب يريدون تدمير إيران، ويظهرون للعالم كله كيف يتعاملون مع أولئك الذين يقررون الذهاب ضدهم"!

فهل ستقوم "عملية طوفان الأقصى" بإعادة رسم خريطة المنطقة؟ وهل منطقة الشرق الأوسط مُقبلة على تغيير وفق ما كان يتكرر على أذهاننا خلال العقود الثلاثة الماضية؟ أم أن عاصفة الأقصى والحرب في أوكرانيا، ستساهمان في رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط ونهاية أوهام إسرائيل؟!