د. محمد بن عوض المشيخي **
سطّرت كتائب عز الدين القسام مُعجزة جديدة تُكتب بحروف من الذهب، وتضاف إلى سجل هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله ونصرة المُستضعفين في الأرض من الشعب الفلسطيني الذي انفردت به العصابات الصهيونية المتعصبة منذ قيام هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين التاريخية بداية من "بن جوريون" عند إعلان ما يعرف بزرع دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي، مرورًا بشمعون بيريز ووصولا إلى العصابة الإرهابية التي تحكم إسرائيل حاليًا والمتمثلة بالثلاثي (نتنياهو وبن جفير وسموتريش) الذين يهدفون علنًا وبدون حرج إلى إبادة الشعب الفلسيطني وازالته من الوجود على مرأى من العالم ومنظماته الدولية.
كانت ساعة الصفر فجر السبت الموافق 7 أكتوبر، بانطلاق "طوفان الأقصى" نحو العمق الإسرائيلي، متجاوزة بذلك الأسلاك الشائكة والقلاع الحصينة لجيش الاحتلال الإسرائيلي طوال خطوط التماس في قطاع غزة والتي لا تقل قوة ومتانة عن خط برليف الشهير الذي عبره الجيش المصري على الضفة الشرقية لقناة السويس قبل خمسين سنة وبالتحديد في 6 أكتوبر 1973. فقد تمكنت المقاومة الفلسطنية من اختراق تلك التحصينات من عشرين نقطة مستخدمة سيارات الدفع الرباعي والدرجات النارية، وكذلك السير على الاقدام واستخدام المظلات الحاملة للجنود والكوماندوز البحري الذين استهدفوا بنجاح قاعدة زكيم العسكرية في عسقلان، بينما سيطرت المقاومة في غلاف غزة بالكامل على 11 معسكرًا للجيش الذين كانوا في سبات طويل بقدرة الله، وكذلك اختراق بنجاح عشرين مستعمرة، فقد باغت هؤلاء الابطال الجميع داخل دولة الكيان، خاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية والحكومة، واستطاعت كتائب القسام وسرايا القدس، قتل أكثر من 700 إسرائيلي من بينهم أحد قادة ألوية جيش الاحتلال وأسر أعداد كبيرة من الجنود ومن بينهم قائد المنطقة الجنوبية.
وهكذا تمكنت حماس وقائدها العسكري محمد الضيف من إعادة شرف الأمة، وغسل عار الهزائم المتكررة للجيوش العربية وحكوماتها مجتمعة والتي عجزت طوال الصراع العربي الإسرائيلي المتد لأكثر من 70 سنة عجاف؛ عن صناعة هذا النصر المبين الذي تحقق خلال ساعات قليلة والمتمثل في تركيع حكومة الصهاينة وإذلال جنودها؛ فالمعارك لم تتوقف منذ يوم السبت، واختراق معسكرات الجيش الإسرائيلي مستمرة حتى كتابة هذه السطور في اليوم الثالث لهذه الملحمة الأسطورية التي سطرها المقاومون من مختلف سرايا الجهاد الفلسطنية وخاصة ذات التوجه الإسلامي. وقال تبارك وتعالى في هذا الموقف "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ".
ولعل منظر الهروب الجماعي للمستطوطنين نحو تلاابيب، وكذلك استسلام ضباط وجنود جيش الاحتلال الذي يعرف بالجيش الذي لا يقهر بدون مقاومة أمام شاشات الهواتف الرقمية خير دليل على هذا الإنجاز الاستثنائي الذي أبهر العالم الحر، وشكل صدمة وزلزالا غير مسبوق ولا يصدقه الخيال بالنسبة لإسرائيل وحلفائها الغربيين.
يجب أن يدرك العرب من المحيط إلى الخليج أن "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلّا بالقوة" فهذه العبارة التي قالها الزعيم الخالد جمال عبد النصر رمز القومية العربية تُعبِّر عن حقيقة صادقة تتجاهلها بعض الحكومات العربية التي تعتقد بأن حل قضية فلسطين وتحقيق السلام بين العرب وإسرائيل يمكن تحقيقه عن طريق ما يُعرف بالمحادثات والتطبيع مع الكيان الصهيوني، على الرغم من مرور عقود عديدة على اتفاقيات "أوسلو"، وقبل ذلك كامب ديفيد و"وادي عربة" والنتيجة ليس اكثر من وَهْمٍ؛ فإسرائيل لا تعرف إلا لغة القوة فقط، فلا يمكن أن يتحقق السلام العادل القائم على المبادرة العربية وإقامة الدولة الفلسطنية وعاصمتها القدس الشريف، إلّا بالخيار الإسلامي والذي تأكد للأمة الإسلامية قاطبة بأنه الطريق الوحيد نحو النصر، فحماس والجهاد الإسلامي هما الحاضرين بقوة؛ فالميدان للجهاد والشهادة من أجل الأقصى.
لقد تراجعت القومية العربية ودورها النضالي منذ احتلال الكويت؛ والتي ارتبطت عن قرب بهذا الصراع التاريخي، فمنذ 1994 تحوّل قادة منظمة التحرير الفلسطنية بمختلف فصائلها بما فيها "فتح" التي كانت أيقونة النضال الفلسطيني إلى أعضاء في حكومة مدنية محاصرة من إسرائيل في رام الله، فأصبحت مع مرور الأيام غير مُواكِبة ولا تنسجم مع مطالب الشعب الفلطسيني الذي يناضل من أجل الحرية؛ فاتفاقية أسلو كانت قاتلة ومثبطة للشعب الفلسطيني.
لقد سارعت الولايات المتحدة بتحريك أساطيلها وخاصة حاملة الطائرات "فورد" نحو الشواطئ الاسرائيلية لمساندة حليفتها في هذه الهزيمة غير المسبوقة في تاريخ هذا الكيان، وكذلك وعد بايدن بتعويض إسرائيل عن خسائرها العسكرية والمالية نتيجة حرب التحرير والزحف نحو الأراضي المحتلة، بينما اكتفت معظم الحكومات العربية ببيانات هزيلة تساوي بين الجلاد والضحية؛ فالاستثناء هنا خليجيًا في موقف سلطنة عمان ودولتي قطر والكويت؛ إذ أوضحت هذه الدول أن سبب قيام المقاومة بهذه الاقتحامات هو تعنت حكومة ناتنياهو ورفضها تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بإقامة دولة فلطسين وعاصمتها القدس الشريف.
في الختام.. كل المؤشرات تدل على أن المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان سوف تدخل المعركة من الجليل الأعلى شمال فلسطين، وذلك خلال الأيام القادمة لمناصرة غزة التي تتعرض للقصف والدمار الشامل منذ يوم السبت الماضي، وربما الاجتياح البري كما أكدت ذلك الحكومة الاسرائيلية.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري