نفوذ الموظف الصغير

 

د. صالح الفهدي

خرج من مكتب أحد المسؤولين وقد رُفض طلبه، فرآه أحد الموظفين الصّغار وهو خارج المكتب فحيّاه ورحّب به؛ إذ كان يعرفه؛ بل- وكما قال لي- كان ممن يُحسِنُ إليهم، فسأله الموظف (الصغير جدًا في درجته الوظيفية) عن الأمر الذي جاء به، فأخبره عنه، وأنه دخل به على المسؤول فرفضه، فقال الموظف الصغير: هات الأوراق وانتظرني بضعة دقائق، أخذها ودخل إلى المسؤول الذي رفضها منذ قليل، وعاد إليّ وقد خُتمت المُعاملة ووقعت بالمُوافقة من المسؤول!

ظاهرة "الموظف الصغير" أسمعها كثيرًا؛ بل وأعيشها كثيرًا في الدوائر الخدمية، فحين يكون المسؤول الكبير مقدّرًا ومتفهّمًا وميسّرًا، تجدُ الموظف الصغير متعنتًا، متصلّفًا، معسّرًا..!

إذا أتعبك الموظف الصغير ورفض قضاء مصلحتك، فاتّجهت إلى المسؤول الكبير فإنَّ ذلك الموظف الصغير سيعرفُ كيف "يُريك نجوم الليل في عزّ الظهر"- كما يقول المصريُّون- لأنّك قزَّمتَ منه، وعصيت أمره، وأنت في الحقيقة لا تريدُ سوى من يتفهمك، وييسرُ عليك قضاء حاجاتك.

منذ سنواتٍ عديدة أجرى أحد وكلاء الوزارات- وقد كان مكلّفًا باختصار المعاملات الحكومية- دراسةً في سلسلة اتخاذ القرار، فإذا به يجدها ترتفعُ من موظف صغير لتصل إلى الوزير ثم تُحال مرةً أُخرى لتصل إلى أقصى نقطة، ثم تقع في يد موظف صغيرٍ يتّخذُ فيها قرارًا، ثم تعود مرةً أُخرى، ويصبحُ قرار الموظف الصغير هو النافذُ في تلك المعاملة! ولو أنَّ كل المناصب قد اُلغيت وترك منصب الموظف الصغير الذي يستحوذ على القرار لكان أجدى لأنه لا يُعصى!

في إحدى الجهات وجدتُ أن الموظف الصغير هو الذي يستفردُ بالقرار فلا يستطيع مسؤوله مخالفته، ولا تسهيل الأمر دونه، يقف المسؤول الأكبرُ منه مرتبةً ليُقنِعه بالمنطق فلا يحرّكُ فيه ساكنًا، ولا تقنعه الحجة.

أحد المسؤولين الصغار في إحدى الجهات لم يكترث لرجاءات صاحب مشروعٍ سيكون له أثر حميد على الوطن، حتى أنه ردّ عليه ردًا لا يليق..! وكاد الوطنُ أن يفقد مشروعًا بسبب عنجهية موظف صغيرٍ لولا تدارك الموقف.

يُخبرني صديق عزيز أنّه مُنِحَ الموافقة الرسمية من رئيس إحدى الجهات، لكنَّ موظفًا صغيرًا اعترض على موافقة الوزير في اجتماعٍ لاحق، وكان اعتراضهُ هو الكلمةُ الفصلُ في الأمر فتم إيقاف الموافقة الرسمية!

مواقف كثيرة في نفوذ وعنجهية موظفٍ صغيرٍ، واستفراده بالقرار، وترك المسؤول الكبير الحبل على الغارب في يد هذا الموظف الصغير كي يُقرر ما يراهُ مناسبًا؛ بل إن البعض يتشكّى من موظفيه الصغار الذين لا ينفذون توجيهاته بالصورة التي يطلبها منهم وهو يعلمُ ذلك.

إذن ما الإشكالية التي جعلت من الموظف الصغير صاحبُ الكلمة الفصل، والقرار النافذ في الحقيقة، رغم أنَّ سلسلة القرار تجعل من المسؤول الكبير هو الذي يفصلُ في الأمر، ويرى فيه ما لا يراه الموظف الصغير؟

أجدُ جملةً من الأسباب وراء ذلك؛ سواءً كانت ظاهرةً أم باطنةً؛ منها: أن المسؤول الكبير يريدُ النأي بنفسه عن اتخاذ القرار وتركه على كاهل الموظف الصغير، فإذا حدث خطأ فإن المسؤول الكبير لا يتحمل وزر ومسؤولية القرار؛ بل يتحمّلهُ الموظف الصغير، وهذا دليل على ضعف القدرات الإدارية للمسؤول الكبير، القلقُ على وضعه الوظيفي من الضرر نتيجة لذلك القرار، ونأيه عن المسؤولية.

البعضُ من المسؤولين يظن أنَّ ذلك ضمن "التفويض والتمكين"، بيدَ أنّ ترك الأمر كله بهذه الحجة في يد موظفٍ صغيرٍ تنقصهُ الرؤية الوطنية العامة، أمرٌ فيه إضرارٌ بالمصالح، لأنَّ ذلك الموظف الصغير يشعر بثقل وضغط مسؤوليةٍ كبيرةٍ ليس أهلًا لها، فيخافُ من عاقبة المسؤولية، ويفضّل أن يتشدّد ويرفض فذلك أسلم له من الموافقة والتسهيل، على غرار القاعدة اللغوية "سكِّن تَسْلَم" (أي لا تنطق حركة الحرف الأخير في الكلام تفاديًا لأي خطأ إعرابي)!

السبب الثاني قد يُفسّر أمر نفوذ قرار الموظف الصغير بأنّ هناك من الأمور الباطنة التي تربطه بمسؤوله الذي لا يريدُ أن يُظهره في وضعٍ ضعيفٍ بالتسهيل في أمرٍ عقّده، أو الموافقة على أمرٍ عارضه.

السبب الثالث فيما أرى، أن المسؤول الكبير ليس أهلًا للمنصب الذي وضع فيه وإلّا اتخذ قرارًا يخدمُ المصلحة الوطنية التي تقتضي بعض الأحيان تجاوز قوانين وعقول ضيقة الأُفق، فقد ضُيّعت للأسف فرصٌ كبيرة بسبب أن عقولًا صغيرةً أو قوانين ضيقة أعاقتها، ونُسفت مشاريع لأن "القوانين لا تسمح"، بينما الحقيقة هي أن الإرادة لا تتوفر فكما يقال "حيثما تكون الإرادة يكون الطريق".

السبب الرابع أن بعض مرضى النفوس من الموظفين الصغار قد يُعيقون مصالح لأنهم يتقصّدون ذلك لكي يأتيهم طالب المصلحة من الأبواب الخلفية لقضائه، من ذلك أن موظّفيْن صغرينً أعاقوا مشروعًا لأنهم لم يحصلوا فيه على منفعة، فلمّا نقل عنهم من سمعهم يتحدثون بذلك ووجهوا به عند مسؤولهم الأكبر وأجبروا على إنهائهم على الفور!!

المسؤول الكبير يمتلكُ رؤية وطنية أكبر مما يمتلكه الموظف الصغير الغارقُ في قوانين وإجراءات بيروقراطية وعنت شخصي يعانيه في نفسه ومساحة من المناورة والتكسُّب بسبب ما منح إيّاه من سلطةٍ يريد بها أن يثبت قوته ونفوذه حتى أن موظفًا عاتب زميله في العمل لأنه أنهى معاملة بصورةٍ سريعة قائلًا له: لماذا لم تطل وتماطل في الموضوع فتطلب منه أن يأتيك يومًا آخر؟! عاتبهُ لأن قضاء مصلحةٍ بصورة سريعة بدا له أمرًا "غير طبيعي".

المسؤول الكبير يفترضُ أن يرى الأُمور بمنظورٍ أوسع فلا يُقصرُ الأمور في قوانين قد تكون معيقة، ولا في حلول قد تبدو قاصرة، وإنما تكون مهمّته البحث عن وسائل لتحقيقها من أجل مصلحة الوطن لهذا يقال أنّ السياسة هي فنُّ تحيق الممكن.

ليس طبيعيًا أن يمتلك الموظف الصغير قرارًا نافذًا على قرار المسؤول الكبير، وليس طبيعيًا أن يترك المسؤول الكبير القرار بيدِ الموظف الصغير في كلّ شاردةٍ وواردة، وليس طبيعيًا أن يتحكّم الموظف الصغير بعنجهية ظاهرة، وبأسلوب متعجرف، وهو لا يعي ما الذي يعنيه الرفض والإعاقة لمشروعٍ ما لوطنٍ بأكمله.

أما الجهة التي يستحكمُ فيها الموظف الصغير على المسؤول الكبير؛ فذلك مؤشر على خللٍ كبيرٍ فيها، كما يعني أنه لا قيمة للتسلسل الإداري الذي ينظرُ للأمر ليس من باب ما تنص عليه القوانين؛ بل من باب ما يتعلق بمصلحة الوطن، وهو مؤشرٌ على ضعف المسؤول الكبير الذي يخشى من تبعات القرار فيُغلق بابه أمام كل قضيةٍ، ومصلحةٍ، ومشروعٍ، حتى لا يُحمَّل نتائجه، فلا يقابلُ أحدًا من أصحاب المصالح، ولا يتواصلُ من برجه العالي مع من يتوقع منه أن ينظر إلى الأمر من الباب الواسع؛ باب مصلحة الوطن.

أذكرُ مسؤولًا كبيرًا عرفته كأنموذج للقيادة في إحدى الجهات نقل إليه موظفوه الصغار شكوى كيدية، واختلاقًا لمعلومات مُضلِّلة، فقال لهم على الفور: أنتم غير صادقين، ولن تقنعوني بهذه الاقاويل المختلقة، وبالفعل تبيّن بعد ذلك الكذب الذي توقّعه من موظفيه الصغار، وصدَقَ كلامه فيهم.

مثل هذا القيادي هو أنموذج لقوة الشخصية التي لا تنحني بمزاعم وتلفيقات، إنما نظرته لمصلحة الوطن عالية، وتقديره للناس رفيعة، كما أنه يعي الأُطر الضيقة للموظف الصغير، والأُطر الواسعة للمسؤول الكبير.

لهذا فنّدوا شخصية المسؤول الكبير من خلال ما يمتلكه الموظف الصغير من مسؤوليات، ونفوذ قرارات، وأسلوب تعامل. البيئة التي يتحكم فيها الموظف الصغير تعني أن مسؤولها الكبير ضعيف الشخصية، فاقد للكاريزما القيادية، لا يعي قيمة المسؤولية ولا مدى حجمها، أما البيئة التي يسود فيها المسؤول الكبير بنظرته الحكيمة، ورؤيته البصيرة التي تتجاوز كل معضلة، وتتخطّى كل تعقيد فتدل على حنكة قائد، وحكمة مسؤول، وشخصية رئيس.