◄ "قمة بريكس 2023" تمثل دفعة قوية لجهود بناء نظام عالمي جديد
◄ رغبة 23 دولة في الانضمام إلى "بريكس" تترجم قوة هذا التكتل الاقتصادي
◄ ضرورة إيجاد نظام اقتصادي مُغاير يرتكز على التنمية والبناء لا استنزاف الموارد
حاتم الطائي
ما تزال حالة التغيرات العالمية تجري من حولنا، فيما يؤكد طرحنا بأنَّ ثمَّة عالم جديد آخذ في التشكل، إيذانًا بانقضاء مرحلة الأحادية القطبية، التي أعقبت مرحلة الحربين العالميتين ما تبعهما من حرب باردة، ليبدأ العالم الجديد القائم على التعددية القطبية، مساره، بينما يتضاءل النفوذ الغربي عالميًا، وخاصة في مناطق الاستعمار القديمة، في حين تزداد المكانة العالمية لقوى العالم الجديد وعلى رأسها الصين وروسيا.
ومن هذا المُنطلق، يُمكننا النظر إلى الاجتماع المُرتقب بعد غدٍ الثلاثاء، لمجموعة بريكس، في جنوب إفريقيا، وهي القمة التي تنعقد في توقيت بالغ الحساسية؛ سواء فيما يتعلق بالأوضاع الجيوسياسية حول العالم، أو التطورات الاقتصادية التي تلت أزمتي كورونا وتعطل سلاسل الإمداد، ما نجم عنه حالة من الركود الاقتصادي في العديد من البلدان، وتسجيل مستويات مرتفعة من التضخم وأسعار الفائدة.
المجموعة التي تضم حتى الآن: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، تمثل واحدة من أكبر التكتلات الاقتصادية العالمية، وتضاهي في قوتها مجموعة العشرين، ومجموعة السبع، وتستحوذ الدول الخمسة الأعضاء فيها على 31% من حجم الاقتصاد العالمي، و18% من التبادل التجاري العالمي، و26% من مساحة العالم، و43% من سكان العالم، كما إن الإنفاق الدفاعي لدول "بريكس" يتخطى 400 مليار دولار، أما اقتصاديًا فإنَّ الناتج المحلي الإجمالي لدول هذا التكتل يبلغ 32.66 تريليون دولار.
وعند تحليل قوة وإمكانيات دول "بريكس" لا يكفي أن نتوقف عند الأرقام والحقائق وحسب؛ بل ننظر إلى الآفاق والخطط والاستراتيجيات التي تعتزم دول التكتل تنفيذها، وفي المُقدمة منها توسيع نطاق التكتل؛ حيث تسعى 23 دولة من مختلف أنحاء العالم، إلى الانضمام إلى تحالف "بريكس"، كما إن التحالف يسعى لتبني سياسات اقتصادية وتجارية من شأنها أن تُعيد تشكيل خارطة التجارة العالمية، وعلى رأسها الرغبة الكبيرة في استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري بين دول التكتل، وهذا مسعى تقوده الصين وروسيا، اللتان تتأثران بنظام الدولرة (أي اعتماد الدولار الأمريكي عملة دولية) القائم حاليًا، خاصة إذا ما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على أي دولة. ولا شك أنَّ توسيع نطاق العملات التي يمكن تنفيذ التبادلات التجارية بها، يُسهم بصورة أساسية في تعزيز الميزان التجاري بين الدول، لا سيما وأن هيمنة الدولار على الأسواق العالمية، تتسبب في أزمات متتالية؛ بل إنَّ مُعظم الأزمات الاقتصادية ناتجة عن ارتباط النظام المالي العالمي بالعملة الأمريكية. وقد بدأ بالفعل عدد من الدول حول العالم في استخدام العملات الوطنية للتبادل التجاري؛ ما ساهم في تعاظم القيمة التجارية للسلع والمنتجات وتخفيف الضغط عن كاهل المالية العامة للدول، وكذلك تحسين أداء ميزان المدفوعات.
وبالنظر إلى الفوائد التي تحققت بفضل قيام هذا التكتل قبل نحو 23 عامًا، فإنَّ تعزيز التوازن الاقتصادي العالمي يتصدر القائمة، خاصة وأن الدول الأعضاء الحاليين، ينتهجون مسار التنمية الدولية، ما أسس لنموذج اقتصادي عالمي مقابل النموذج الاقتصادي الذي يقوده الغرب وأمريكا؛ فنموذج "بريكس" يستهدف مسارات التنمية عبر تعزيز علاقات التعاون والشراكة الاقتصادية بين الدول، وتقود الصين هذا التوجه، خاصة بعد إطلاق مبادرتها العالمية "الحزام والطريق"، إلى جانب الدور المؤثر لروسيا والهند في النظام الاقتصادي العالمي، من خلال إسهاماتهما في سوق الحبوب العالمي، لا سيما وأن دول "بريكس" تستحوذ على ثلث هذا السوق، أي أنها قادرة على الحفاظ على الأمن الغذائي العالمي، بعيدًا عن أي قرار غربي أو أمريكي قد يستهدف بعض الدول.
هذا النوع من التوازن الذي استطاعت دول "بريكس" أن تضع له القواعد الثابتة في بنية الاقتصاد العالمي، يُمهِّد الطريق في الوقت ذاته، لبناء منظومة اقتصادية تنطلق من جنوب العالم؛ فالصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل تسعى لتوحيد الجهود من أجل قيادة النمو العالمي من جنوب الكرة الأرضية، بعدما اقتصر هذا النمو لعقود مضت على نمو اقتصادات نصف الكرة الشمالي. وهذا يقودنا إلى دلالة صريحة على الدور المحوري الذي يمكن أن تقوم به دول "بريكس" من خلال تعزيز مسارات التنمية العالمية، وقيادة نمو اقتصادي قائم على التعاون والشراكة لا استنزاف الموارد الطبيعية للدول، ومنظومة دولية قادرة على مواجهة التقلبات الاقتصادية على أساس تحقيق المنفعة العامة لا الهيمنة وإلحاق الضرر الاقتصادي بالدول الأقل نموًا. والمُلاحظ أن دول هذا التكتل تسعى فيما بينها من أجل تعزيز التكامل الاقتصادي، فبينما تركز الهند على تطوير القدرات التكنولوجية، تسعى الصين إلى القيام بدور أكبر في التجارة الدولية تعزيزًا لمكانتها، أما جنوب أفريقيا والبرازيل فتأملان التوسع في الأنشطة الزراعية لتعزيز الأمن الغذائي، في حين تستهدف روسيا ترسيخ الروابط الاقتصادية مع القارة الآسيوية لا سيما في ضوء المشاريع الصناعية التي تعتزم تطويرها في شرق البلاد.
القمة المرتقب انعقادها في جوهانسبيرج بعد أقل من 48 ساعة، ستطرح على طاولة النقاش عددًا من الملفات والقضايا، وتشمل التجارة العالمية في ظل التحديات القائمة، وقضايا التمويل مع ارتفاع معدلات الفائدة، إضافة إلى تغير المناخ في ضوء مؤتمرات "كوب" التي تعقدها الأمم المتحدة. وتضم قائمة الموضوعات المطروحة للنقاش: مسألة أمن الطاقة؛ إذ تأمل روسيا إثارة هذا الملف خاصة بعدما تعرض له خطا "نورد ستريم 1 و2" من أعمال تخريب أثرت على تدفق الغاز إلى أوروبا، والعقوبات المفروضة على روسيا نتيجة للعملية العسكرية في أوكرانيا، وفوق كل ذلك قضية الدولار، وسط ترجيحات عن رغبة دول التكتل في تبني عملة خاصة به.
ويبقى القول.. إنَّ التحديات الاقتصادية التي نشهدها من حولنا تتطلب قيام مثل هذه التكتلات التي تعمل على تعزيز التوازن الاقتصادي، وتستهدف عدم بقاء مركز ثقل النظام الاقتصادي العالمي في يد دولة واحدة أو معسكر واحد، لكن في المُقابل تعزيز التضامن العالمي لمواجهة الأزمات وإيجاد الحلول القائمة على التشارك في النتائج، مع كسر أي شكل من أشكال الهيمنة والاستحواذ غير العادل، ولا شك أنَّ تحالف "بريكس" سواء في تشكيله الحالي، أو المُستقبلي المرتقب، سيعمل على تغيير قواعد اللعبة العالمية، ومن ثم تحقيق الأهداف العادلة والمُنصفة لشعوب العالم.