الآباء الهليكوبتر

 

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

 

في مجتمعاتنا العربية كلنا يتذكر الأيام الخوالي بحسرة، حيث كان الطفل يتلقى التربية داخل المنزل وخارجه، في الشارع وفي الحارة وفي السبلة العامة، وكان الأب يغدو شاكرًا لكل من قوم خلقًا لابنه، كما أن اصطحاب الأب لولده إلى المعلم وبيده العصا قائلاً بكل حزم وثقة: "سلم العيون" أي أنَّه يعطيه الرخصة أن يضربه إن لزم الأمر لتعليمه على أن لا يضربه على الوجه، كان ديدن السواد الأعظم من الآباء قديمًا، لمكانة المعلم العظيمة لدى أولياء الأمور، ولثقتهم به بأنَّه سيعلم ويُربي، وكان الصاحب لا يخرج عن زميل الدراسة أو ابن الجيران أو ابن أحد معارف الوالدين، لذا كان الوالدان على اطلاع جيِّد بأقران أبنائهم.

كانت البيوت سابقًا كبيرة تتسع للأسرة من ثلاثة أجيال وأكثر، وكانت التكنولوجيا حتى البسيطة منها بعيدةً كل البعد عن الحياة اليومية قديمًا، لذا كان الأب والأم منشغليْن عن التركيز على تربية كل طفل على حدةٍ، لأنَّ الأسرة الواحدة لا يقل عدد الأطفال بها عن خمسة أطفال في المتوسط، ومع عمل المنزل المضني وعدم وجود الكهرباء كان الجميع يغفو بعد صلاة العشاء مباشرة، وكان الإخوة الأكبر سنا يقومون بالاهتمام بإخوتهم الأصغر سنًا، فالأم مشغولة بالأعمال المنزلية، والأب في عمله باحثاً عن الرزق، ثم ظهر الجيل (X) وهم مواليد منتصف ستينيات إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، الذين أحاطوا أبناءهم بالرعاية المفرطة وبخاصة في التعليم، فهم من ناحية يريدون تعويض الأبناء عما فقدوه هم في نشأتهم، ومن ناحية أخرى أصبحوا يتنافسون مع غيرهم من الآباء في نوعية التعليم وأنشطة ما بعد المدرسة التي يقدمونها لأبنائهم، وبالتالي عزلوا أبناءهم عن التواصل الاجتماعي الواقعي.

ظهر مصطلح (الآباء الهليكوبتر) لأول مرة في عام 1969 في كتاب "بين الآباء والأبناء" لعالم النفس الأمريكي "حاييم جينوت"، ليصف بذلك بعض الآباء الذين يحاصرون أبناءهم في كل شيء، ويظلون يحومون حولهم مُراقبين جميع تصرفاتهم، وحذر من هذه النوعية من الآباء، وعلى الرغم من أنَّ هذا الكاتب قصد بذلك المصطلح الآباء من مواليد أربعينيات إلى ستينيات القرن الماضي، إلا أن المصطلح انتشر انتشارا واسعا وتم ضمه إلى معاجم اللغة الإنجليزية؛ حيث ازداد عدد الآباء الهليكوبتر مع مرور الوقت ليشمل الأجيال (X) و(Y).

عالم النفس الاجتماعي "جوردن بيترسون" تحدث عن الإهمال المُفيد (usefully neglectful) وأهمية المساحات الصحية بين الآباء والأبناء، الحماية الزائدة خطيرة جداً على الأبناء، فعزل الطفل عن الواقع الحقيقي يحرم الطفل من الآليات النفسية التي تجعله يتعامل مع ما/من حوله، لذلك فالجيل (X) أصبحوا آباءً للجيل المعروف اليوم بالجيل (Z)، وأن عامل ارتفاع سن الوالدين أثر على صناعة هذا الجيل اليوم؛ حيث إن الفتيات والشباب لا يتزوجون في سن مبكرة كما كان يحدث في الماضي، ومع ارتفاع المعرفة ومستويات التعليم لهما أصبح عاملًا إضافيًا لأسلوب التربية التي ينتهجونها، لذا فإن إنجابهم لطفل أو طفلين جعلهم يغدقونهم بالاهتمام والرعاية المفرطين، ومع التكنولوجيا واتساع رقعة الأصدقاء كميًا ومكانيًا أصبح للطفل موارد خارجية للتربية، وهذا ما جعل الوالدين يحاولان ملء وقت الطفل بأنشطة خارجية بدنية وذهنية، ليعود الطفل منهكًا إلى فراشه مساء، وأفرطوا في حماية أبنائهم من كل شيء، ويتصدرون المواقف ويقومون باتخاذ القرارات نيابة عن أبنائهم، ليخرج جيل اليوم اتكالياً على والديه أحدهما أو كلاهما، وهذا ما حدث من الجيل (Z) الذي تخرجت الأفواج الأولى منه ودخلت سوق العمل، وصدموا بالعالم الواقعي، فوصفوا بالهشاسة النفسية (رقائق الثلج) لدرجة أن أحد علماء النفس الأمريكيين اعتبر هذا الجيل أزمة قومية (National Crisis)، لهشاشته وضعفه أمام المواقف الواقعية، لذا يجب أن ننتبه إلى هذا الجيل ونحاول دمجه في الواقع، وأن نعطيه مساحات معقولة من المسؤولية الواقعية، وأن نكف أن نكون يديه ورجليه وعقله.

-------------------------------------------------------------

توقيع:

"من عيرك شيئًا ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، وإذا نهيت عن الشيء فابدأ بنفسك، ولا تشاور مشغولا وإن كان حازماً، ولا جائعاً وإن كان فاهما، ولا مذعورا وإن كان ناصحا". قس بن ساعدة الإيادي.