ظفار.. أيقونة المواسم

علي بن سالم كفيتان

توارت الشمس خلف السُحب، وودعت الأرياف والبوادي والمدن، مُفسحة المجال لموسم جديد.. هنا في ظفار لا توجد شمس واحدة؛ ففي كل عام ترحل شمس لتشرق أخرى، ولا أدرى إن كُنّا في هذا الكون أم خارجه، هكذا يشعر سالكو الدروب المغبرة والموحلة والمخضرة في آنٍ واحدٍ، وهكذا يشعر الناجي من أعوام القحط ليرى تباشير المطر التي تهدئ من روع الأرض المتشققة والأشجار الشاحبة.

كل شيء يبدو رماديًا، ويزداد اللون قتامة مع بدايات المطر؛ لتبكي الأرض مُعاتبةً الخريف الذي غادر مبكرًا في العام الفائت، بينما جموع النمل المجنح بدأت تطير من أوكارها يُلاحقها الصبية في القرى الريفية، وعاد صوت الضفدع يعزف من بعيد معلنًا وجوده؛ فقد كان تحت صخرة أو في جوفها، عقب رحيل آخر غيمة في العام الماضي، وما زال الصراع قائمًا بين طائري (قفقوف ودعانوت)؛ فالأول يصيح لاستمرار الصيف (قوض ... قوض ... قوض)، بينما يعزف الثاني أنشودة المطر (مسي... مسي... مسي).

ظفار عروسة كل الموسم، تمتلك في خزانتها كل الثياب، وتتوشح بالكبرياء والهيبة، تستمع لرزيم الإبل الراحلة قبل المطر وأصوت الرعاة المتعالية وهم يسيرون في موكب الوداع الذي لا ينتهي... ظفار ترى عين تلك المرأة الطاعنة المتفحصة من مقدمة سيارة "البيك أب" المُثقلة بالأحواض وبقايا العلف ومولود صغير تتبعه أمه، كل ذلك تحت نظرها الثاقب القادم من خلف برقع نيلي تطل منه بعيون تعرف الحياة والموت، وتطبق على أسرار ومشاهد لا تُحكى إلا للراحلين؛ لتناغي تلك المرأة المهيبة بعصاها صبيًا يركض بحماس ليلحق بالركب، وبعدها تقيم جلستها على الكرسي بتؤدة إلى جنب آخر من تبقى لها من الزمن الجميل؛ فهو الوحيد القادر على فك شفرات نظراتها الصامتة، وهي لم تعد تأبه كثيرًا بأحد غيره... فوجوده يعني كل شيء في عالمها الذي لا يعترف بسُلطة المكان، ويُؤمن بمبدأ الرحيل اللامتناهي!

في ظفار يأخذ الأب معوله وفأسه ومحراثه لينظف الحقول، ويعيد ترميم أسوارها المبنية بجذوع الأشجار، وفي الضحى تلحق به بقية العائلة لتتصاعد أعمدة الدخان من القمم والسفوح والوهاد، الجميع شغلتهم الأرض التي لم تبخل عليهم يومًا بعطائها... إذا كنت عابرًا ستتهادى إليك أصواتهم من كل ذرة تراب في هذا الوجود، ولن تخطئ عيناك امرأة تمشي على عجلٍ تحمل الغداء إلى العاملين في حقول الذرة واللوبيا، تقطع المسافات لتصل في وقتها يجتمعون حولها تحت شجرة التين العملاقة في وسط الحقل الفسيح الذي بات نظيفًا. وفي نهاية النهار لا بُد من العودة مبكرًا لتكملة بقية المهمات؛ فمُلَّاك الأبقار يلبسون المطر، وتستهويهم العتمة، واعتادت أقدامهم على الثبات، مهما كان التراب مُوحلًا.. تعشقهم الأرض والأشجار والغيم.. إنه موسم الرخاء؛ حيث يلد القطيع ويدر الحليب ويُعمل السمن، وبعد كل فترة تعود الجموع إلى الحقول لرعاية المحاصيل من النباتات غير المرغوبة والحشرات وصيانة المسورات. ما أجمل أن تكون شاهدًا على كل ذلك... قحطٌ وبعده مطر، ثم زرع يتلوه حصادًا ووفرة... هذه هي ظفار تهوى التغير وتعشق الألوان بكل تدرجاتها.

النازحون إلى السهول يذهبون إلى الساحل ويصغون بحذر للأمواج الهادرة في بحر العرب؛ فهم لا يأمنون البحر، بينما يظهر العم دحام قادمًا من سديم الموج وغيم المطر، مُحمّلًا بخيراتها، يأتي مُبتسما باشًّا ويقذف حمولته على الأرض، قائلًا: "كل حد يشل خصاره"، فهو تعوَّد ألا يبيع للعابرين أو الرعاة الذين لا يعرفون البحر، يُلملم ما تبقى ويقفل عائدًا الى أزقة المدينة، مارًا بين أحيائها الضيقة، وحاراتها النابضة بالحياة، وفي الطريق يقفُ ليسلم على سلامة في مسخن الخبز، فهذا هو مخبز الناحية؛ حيث يتسابق الأطفال مع عاناتهم (فكة معدنية)؛ لأخذ ما تحتاجه بيوتهم، وفوق كل قسمة تقول سلامة "هذي حق عمتك يا وليد فهي تعودت أن تزيد الكيل ولا تنقصه"، وفي نهاية النهار تخبر ابنتها لوضع أكوام الخبز في زنبيل، وتوزعها على عدد من البيوت؛ فهؤلاء إما أسر مقتدرة أو فقراء معدمون أو لا يوجد لهم أبناء يستطيعون القدوم للمخبز...

في هذا الموسم يُبرم ملاك الماشية الصفقات مع أصحاب الضواغي (صيد سمك السردين) فكل شيء يتم بالمقايضة بين تجار الملح والرعاة والبحارة... فأهلًا بكم في ظفار.