عباس المسكري
في كل نهضة مرت بها الأمم لم يكن المال هو البذرة الأولى بل الإنسان، فالرجال هم من يصوغون التاريخ ويصنعون الثروة ويحمون الأوطان، وبناء الإنسان القادر المتمكن هو حجر الأساس لكل مشروع تنمية حقيقي، وما نفع المال إن لم يُوكل لمن يحسن تدبيره؟ وما قيمة الثروة إن لم تجد من يصونها ويضاعفها؟ في زمن باتت فيه الموارد التقليدية إلى زوال، يبقى الإنسان هو الأصل الذي لا ينضب، والرهان الذي لا يخيب.
إن من يصنع الرجال، إنما يصنع الأمل والاستقرار والمستقبل، فتنشئة شاب واعٍ، طموح، متعلم، وقادر على المبادرة، أهم من ضخ الملايين في مشاريع قد لا تجد من يديرها، فكم من أموال أُنفقت وضاعت لأنها لم تُسند إلى رجال مؤهلين! وكم من شابٍ صُنع جيدًا، فحوّل القليل إلى الكثير، وغيّر واقعه وواقع مجتمعه.
صناعة الرجال لن تتم وهم في بيوتهم، يقضون سنوات طويلة في انتظار فرصة قد لا تأتي، فالشباب لا يُصنع بالصبر وحده، بل بالفعل، فيجب أن نخلق لهم الفرص، لا أن ننتظر أن تظهر من تلقاء نفسها، فيجب أن نمنحهم الثقة، ونحمّلهم المسؤولية، وندفعهم إلى الميدان، حيث تُبنى الشخصية وتتكوّن التجربة.
لا يمكن لشاب أن يكتشف قدراته الحقيقية ما لم يُوضع في موضع القرار، ويُكلّف بما يختبر وعيه ومهاراته، والتهيئة للمستقبل لا تكون بالوعود، بل بالتدريب العملي، والدعم المستمر، والإيمان بأن أبناء اليوم هم صُنّاع الغد، إذا ما فُتحت لهم الأبواب ووُضعت أمامهم التحديات.
الرهان على الشباب ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية، فحين تضع الدول استراتيجياتها التنموية، لا بد أن يكون الشاب في قلبها، بالتعليم الذي يواكب العصر، وببرامج التأهيل، والدعم، والمساحات التي تُطلق فيها طاقاته، لأن هذا الشاب، حين يُصنع كما ينبغي، يصبح ثروة متحركة، وعقلًا مُنتجًا، وقلبًا نابضًا بالوطن.
وعليه، فإن مسؤولية الحكومة لا تقتصر على توفير التعليم أو الدعم المالي فحسب، بل تمتد إلى خلق بيئة عملية تمكّن الشباب من ممارسة أدوارهم، وتحمّل المسؤولية في وقت مبكر، فالاستثمار في الإنسان لا يكون فعالًا دون آليات واضحة لتمكينه، وتكليفه بمهام حقيقية داخل مؤسسات الوطن والقطاع الخاص، ومحاسبته وفق معايير مهنية، لا وفق العمر أو الأقدمية، ففرص القيادة تُمنح لمن يُهيّأ لها، لا لمن ينتظرها.
لا بد من صناعة أبناء الوطن، لأن الوافد، مهما بلغت كفاءته، لن يدوم لكم، ولن يكون بديلًا دائمًا عن الكادر الوطني، والاعتماد على الكفاءات الخارجية قد يكون حلًا مؤقتًا، لكنه لا يمكن أن يُشكّل قاعدة لبناء مستقبل مستقر ومستدام ، وعليه لا بد من اتخاذ القرار الجريء بالتحوّل الجاد نحو تمكين الشباب الوطني، وتأهيله ليأخذ مكانه الطبيعي في إدارة الموارد، وقيادة المؤسسات، وصناعة القرار، فالتحدي اليوم لا يكمن في توفر الطاقات، بل في الإرادة السياسية لتفعيلها، وفي تهيئة المناخ التشريعي والإداري الذي يمنحها الثقة والمسؤولية.
صناعة الرجال، ليست عملية تلقائية، بل مشروع وطني طويل الأمد يتطلب رؤية واضحة، ومؤسسات تُعنى بتأهيل الشباب لا من منطلق الرعاية فقط، بل من منطلق الشراكة في بناء المستقبل، والمطلوب هو برامج قيادية ممنهجة، وسياسات استباقية لاكتشاف الكفاءات مبكرًا، وربط التعليم بسوق العمل، وخلق مسارات واضحة تُمكّن الشاب من التحول من متلقٍ إلى صانع قرار، ودون ذلك ستبقى الطاقات معطّلة، وتظل المبادرات الفردية هي الاستثناء، لا القاعدة.
صناعة الرجال لا تتم بأن يبقى الشباب في منازلهم ينتظرون الفرصة، بل هي عملية فعلية تبدأ بخلق تلك الفرص وتمكينهم منها، ولا يكفي أن يُمنح الشاب تعليمًا أو دعمًا ماليًا فقط، بل يجب أن تُهيأ له بيئة عملية تسمح له بتحمل المسؤوليات، وتطوير مهاراته من خلال المشاركة الفعلية في ميدان العمل وصنع القرار.
إن دور الحكومة يتجاوز تقديم الموارد، فهو يشمل بناء آليات واضحة وفعّالة لتمكين الشباب، بحيث تُكلفهم بمهام حقيقية في مؤسسات الوطن والقطاع الخاص، مع وضع معايير موضوعية للمحاسبة على الأداء تعتمد على الجدارة والكفاءة، لا على العمر أو الأقدمية، وبهذا الشكل، تتحول فرص القيادة من حلم إلى واقع يُمنح لمن يستحقه ويُهيأ له.
هذه العملية ليست مجرد تأهيل نظري، بل تدريب عملي مستمر، ودعم معنوي ومادي، وفتح أبواب التحديات التي تجعل من الشباب صُنّاع غدٍ قادرين على قيادة المستقبل بثقة وجدارة.
ولأن الثروات الحقيقية لا تأتي من باطن الأرض فقط، بل من عقول أبنائها، يجب أن نوجّه بوصلة الاستثمار نحو الإنسان أولًا، ونعلّمه لا ليحفظ فقط، بل ليفكر ويحلل ويبتكر، ندرّبه لا ليأخذ وظيفة فقط، بل ليخلق فرصة، ويقود مشروعًا، ويصنع فرقًا (فـاصنع رجالا ولا تصنع مالا)، ليست حكمة عابرة، بل فلسفة بناء طويلة الأمد.
حين نصنع الرجال، يصنعون لنا المال، ويبنون لنا المؤسسات، ويقودوننا نحو مستقبل لا يعتمد على الموارد الناضبة، بل على الكفاءة، والجدارة، والإرادة.