علي بن سالم كفيتان
من سُنن الله في خلقه، تواجد كثير من المخلوقات في بقاع مختلفة من كوكبنا، في الوقت الذي يستحوذ فيه الذئب على الصيت الأعلى في بقاع شتى من الصحاري والوهاد العربية، كسيدٍ للبراري، لذا نُعِتَ بالكثير من الصفات الحميدة في الموروث الشعبي، كالشجاعة والإقدام والقدرة على التخفي واقتناص الفرص، وذهب البعض بعيدًا في القول إن الذئب ليست له إلّا زوجة واحدة في دورة حياته، فإن ماتت ظلَّ وفيًا لها، ولا يقرب أنثى أخرى حتى يموت.
إضافة الى رعايته لوالديه عندما يكبرا، وتسقط أسنانهما وتشيخ مخالبهما، فيظل هو من يجلب الطعام ويُوفِّر المأوى والرعاية لهما. وذُكِرَ أن مجتمع الذئاب مُنظَّم للغاية؛ إذ لهم قائد يتقدم الصفوف في الهجرات والصيد، ولهم حامٍ يكون في مؤخرة القطيع، ويمتلكون استراتيجية مواجهة التحديات والمصاعب؛ حيث يتوزعون إلى مجموعات صغيرة ويتفرقون لتقليل الضرر، حتى الوصول لنظرية "الذئب المُنفرِد"، وكل ذلك يدعو للتفكر في خلق الله وأخذ العظة والعِبرة من العوالِم الأخرى التي أبدعها الخالق.
كان الانسان في بداية وجوده على الأرض صيادًا، ثم تعرَّف على النار ليطهو صيده، وبعدها تعرَّف على مهنة الزراعة واستئناس الحيوان، وظل عواء الذئب أكبر ما يُقلق الراعي في صحارينا وجبالنا؛ فصوته القادم من بعيد يعني جوع المُفترِس وحاجته إلى الطعام؛ ليبادر الراعي بتحصين زرائبه وتعمير سلاحه، والتربص على أطراف القرية للنيل من القادم الجائع.
الذئب بإطلاقه الصيحات يُحذِّر الراعي ويُخبره بأنه قادم إلى المضارب، وهذه تُضاف إلى صفات هذا المخلوق العجيب، وعادةً لا يُهاجم في الليلة الأولى أو الثانية أو الثالثة، لكن الصيحات تزداد والصوت يدنو ليلةً بعد أخرى من القرى والمضارب.
كنتُ في منتصف تسعينيات القرن الماضي أزور بادية ظفار، وعندما كُنَّا نسمر مع اسرة بدوية كريمة على النار، والإبل حولنا، سمعنا صيحات الذئب من بعيد؛ فحركت الإبل الرابضة آذانها والتفتت إلى مصدر الصوت، وبدأت الأغنام في الثغاء من زرائبها، فقد وصلت الرسالة إلى الراعي وإلى القطيع، وبدأ الكُل يستعد للهجوم، لكن العجوز الطاعنة في السِن كان لها رأي آخر؛ إذ صاحت من عريشها لابنها، وقالت: "يا مبخوت اذبح الغنمة الفلانية، وسمتها باسمها، وضعها تحت السمرة الفلانية، قبل حلول الفجر". هنا استغربتُ من هذا الطلب، لكن مبخوت لم يناقش الامر؛ بل فعل ما أمرته به أُمُّه دون مراجعة، وذبح الشاة واخذها بسيارته "البيك أب"، بينما أنا أنظرُ إلى المشهد حتى اختفت الاضاءات الحمراء الخلفية للسيارة في سديم الظلام، وعاد الحديث على النار بين الرجال، كأن شيئًا لم يكن!
رقدتُ تلك الليلة في خيمة البدو تلك، وأنا أُفكِّر في هذه الاستراتيجية العجيبة وربطتُها بمعتقدات في العوالم الأخرى؛ فالناس في البيئات الريفية والبدوية وحتى الحضرية يعتقدون بوجود تلك العوالم، ويتعاملون معها عبر طقوس مُعيَّنة، رأيتُ بعضها في صِغَري في الريف، عبر نثر الطعام وإلقائه في عدة جهات، مع الترنُّم بكلماتٍ توحي بالمخاطبة لتلك العوالم وإطعامهم كفًا لشَرِّهم وأذاهم، فقلتُ في نفسي، هل العجوز ذبحت شاتها لدفع شَرِّ تلك العوالم المجهولة، أم لها شأن آخر؟! هذا ما سوف أعلمه غدًا.
في الصباح، اقتنصتُ الفرصة للجلوس مع هذه السيدة الوقورة، التي تتحرك بمساعدة عصى طويلة، واقتربت منها وهي كعادتها تجلس كل صباح حوالي ساعة في الشمس وظهرها للشروق، وبجوارها إبريق فضي لامع وكوب من النحاس. سلَّمتُ عليها؛ فرحَّبتْ بي، وجلستُ إلى جوارها، وسألتُها عن هذا الطقس الصباحي؛ فقالت الشمس تمنح الطاقة، وعليك أخذ كفايتك منها كل صباح، لكن وجهك وعينيك لا يحتملان وَهَجَها؛ فعليك ان تمنحها ظهرك، وأنا هُنا على هذه الهيئة كل يوم استمتع بالنظر إلى المضارب والإبل وثغاء الأغنام مع صغارها كل صباح، بعدها أنتقلُ إلى تحت ظل تلك الغافة؛ فهي مقري النهاري، وهذا الإبريق فيه ماء للشرب، والوضوء للصلاة. قلتُ لها: لما ذبحتي الشاة للذئب في الليلة الفائتة؟ فابتسمتْ وسكتتْ قليلًا، ثم سألتني: أنت من الجبل؟ قلتُ: نعم فردَّتْ عليَّ: نحن نعشي الذئب لأنه سيد البادية، وبيننا لغة لا يفهما غير الذئب ونحن.. شدَّني حديثها المليء بالحكمة وألحَحْتُ عليها للحصول على جوابٍ أكثر اقناعًا، فقالت: "إذا لم نطعمه سنخسر القطيع"!