معاوية الرواحي
رغم كل الحزن الذي يصول ويجول في الأذهان والأفئدة عمَّا يحد في غزة، ثمّة شيء ما تاريخي يتجلى في كل هذا الخراب، عن الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وهكذا يفعلون!
المتطرفون العالميون الصهاينة يدخلون أيامهم الأخيرة، خنجرٌ في اليد ملطخ بدماء الأبرياء، وقلمٌ في اليسار ملطخ بقرارات التجويع، ورأس مليء بالهراء الديمقراطي، وقدمان تسيران للهاوية، وجسد من وهم يتحول كل يوم إلى ظلٍّ لشبح راحل.
لم ينجح مستعمر يوما ما في المكوث في أرض احتلَّها بدون إبادة شعبها الأصلي تماما. إبادته، ودمجه، وتمييع ثقافته، وحصار إعادة ولادته.
وبالنسبة لإسرائيل، التوراتية التي تأتي من كل التاريخ المزوّر والمحرفّ، هذه البدائية، والبربرية، والهمجية، جعلت السابع من أكتوبر شيئا لا يُذكر في المعايير العالمية المزدوجة والمنافقة. حتى تلك الأفضلية الأخلاقية من المنظور الغربي تناثر مهشمةً أمام هذه الحقيقة الإسرائيلية الواضحة. هذه ليست دولة ديمقراطية، وليست دولة تريد البقاء، هذه قاعدة عسكرية للمتطرفين، وحتى وإن كان بها من بها من قليلٍ يتوهم أن البقاء ممكن، ينتصر المتطرفون، ويأخذون بإسرائيل للهاوية.
جرّب معي أن تتخيل قليلا أنك مهاجر يهودي جديد، تصل لإسرائيل قبل عامين، وكل هذا يحدث؟ ألن تشعر بالذعر؟ ألن تشعر أن مقوّمات بقائها كل يوم تتحول إلى صراع رأسمالية، وصناعة أسلحة، وقيادات سياسية محددة، وحرب ابتكار؟ ونعم إسرائيل الآن منتصرة في كل هذا، ولكن السؤال الكبير: هل تستمر الدول المفتعلة في البقاء والحياة إن زالت عنها أهم مكوّناتها المعنوية؟ السلام؟ الرخاء؟ والصداقة؟ والثقة بين الحلفاء؟
ما فرّط به نتنياهو لم تكن المقاومة لتحلم أن تحققه! ما فعله كان كافيا لكي يكون بقاء إسرائيل مرتهنا بمعادلات الاقتصاد والبحث العلمي، وهذه نعم، تصنع قوّة، وتصنع دولا، ولكن الدول إن كانت جديدة فرحلتها الرئيسية هي البحث عن المعنى العميق الجوهري لأبناء ترابها الجدد، أما بطش المهاجرين بسكان الأرض، والانتماء المزدوج والرماد القومي الذي آل إليه الحال، أعاد إسرائيل إلى منطقةٍ تعبت عقودا لكي تنفي عنها حقائقها، دولة نازية، تذهب إلى أبعد ما يكون، ودرعها الأمريكي مشكوك في أمره، والاستقطاب العالمي نجح في أن يجعل إسرائيل موضع سؤال على الأقل وإن لم يكن موضع إجابة حاسمة ومؤثرة.
رغم كل هذا البؤس الذي يحدث، نعم إسرائيل ستبقى، بقوة النظام القانوني العالمي البائس ستبقى، بقوَّة الجيوش وصناعة الأسلحة ستبقى، بقوَّة البطش والبلطجة والجريمة الدولية ستبقى، بكل هذه المعطيات ستبقى، مؤقتا، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، إلى أن تتغير المعادلات الكبيرة، إلى أن تقوّض أمريكا شيئا ما، ويخطئ أحدهم في شيء آخر، إلى أن تهاجر العقول، وتؤسس ما يمكن نسخه وفعله في الصين أو في دولة أخرى، وهُنا ماذا تبقى لإسرائيل؟ بقي احتلال بلا جوهر وطني، وخرافات المتطرفين البدائيين البرابرة، وسمعة ملطخة بالعار والإبادة. ما فعلته في إسرائيل بنفسه لم تكن المقاومة لتحلم أن تحققه ولو بحرب عشرين سنة.
ما هُدم في غزَّة يمكن أن يبنى، وما مات يولد، ومن يعيش، بقيت له فكرة تحارب الفناء، روح وطن، وشعب، ورحلة تحرير، لعلها لن تتحقق في هذا الجيل، وربما ليس الذي بعده، الهزيمة هي أن تموت هذه الفكرة، وأن تخمد هذه الروح، فماذا حدث في النهاية؟ فلسطين بلا بحث علمي، بلا ابتكار، بلا اقتصاد، ولها في آجلٍ من الزمان أن يحدث لها ذلك، أما إسرائيل، فلديها ما لديها من مقومات الدولة الحديثة، والسؤال؟ ماذا تبقى من جوهر الدولة المعنوي؟ قواعد عسكرية، ومكاتب رأسمالية، ومختبرات، ومخابرات، كُل شيء اسمه دولة، ولا شيء اسمه وطن!
والله غالب على أمره.