د. عبدالله باحجاج
الكل أصبح يعلم الآن التحديات المعقّدة والمركّبة والخطيرة، المتداخلة والمستحكمة على الكثير من الأسر، وتصريحات الادعاء العام الأخيرة بشأن وجود أكبر "10" قضايا في البلاد تثير القلق، في مقدمتها المخدرات والمؤثرات العقلية، وكشفه عن وجود شبكات إجرامية دولية تستهدف الشباب خاصة، وتحويلهم إلى مدمنين واستغلالهم في أنشطة ترويج المخدرات وارتكاب جرائم. كما كشف عن شبكات تعمل إلكترونيًا، ودعوته الآباء والمربين إلى متابعة أبنائهم بشكل مستمر مع توعيتهم بمخاطر رفقاء السوء، تجعل من عودة المرأة لمنزلها وتمكينها ماليًا أولوية الآن، لأن تلكم التحديات التي كشفها الادعاء العام ليست ظرفية، ومجتمعنا -مثل المجتمعات الأخرى- مستهدف من تجار السموم، ومن ثم يحتم وجود المرأة في منزلها وتفعيل دورها التربوي والتعليمي والإرشادي.
انكشافات الادعاء العام الصريحة، والشفافية التي يُشكر عليها، تُعد من كبرى المسوغات في التفكير الجاد في عودة المرأة للتفرغ لأبنائها؛ فكل من يحتج بالتوفيق أو التوازن بين العمل والأسرة ربما كان ذلك مقبولًا سابقًا، أما الآن، فإن دور الأم الأسري، في ظل انشغالات الأب، نراه ينبغي أن يكون كاملًا ومتفرغًا، في ضوء ما كشفه الادعاء العام، وفي ظل مخاطر انشغال الأطفال بالهواتف الذكية، والألعاب الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت -كما يُقال- بديلًا عن دور الأب والأم في التربية والتعليم.
ولو شخصنا دور الأم الآن فسنجده على شاكلتين، الأول تمارس فيه مجموعة وظائف في اليوم الواحد، تعمل، وتربي، وتقوم بواجباتها الأسرية والاجتماعية الأخرى، والثاني ربات بيوت متفرغات للتربية والتعليم، لكنهن يفتقرن للدعم المالي الذي يساعدهن على القيام بتلكم المهام الاستراتيجية التي هي وطنية بامتياز، فصناعة جيل متوازن ومحافظ على ثقافته الوطنية وهويته الأخلاقية والقيمية في عالم مفتوح يبدأ من الأسرة، وبالذات دور الأم في شراكة مع الأب المكلف بتوفير لقمة العيش وتحسين مستوى دخل الأسرة، وتفريغ المنزل من الأب والأم صباحًا حتى المساء يصنع فراغات كبيرة ينفذ منها شياطين الأجندات المدمرة للأطفال والشباب، من هنا ندعو إلى الآتي:
أولًا: الإسراع في تطبيق منفعة ربات البيوت التي أُقرت أصلًا ضمن المنافع الاجتماعية لكنها مؤجلة، وكل الظروف تحث الآن على تطبيقها، والتفكير في هذه المنفعة وإقرارها ضمن حزمة المنافع ينم عن وعي الدولة -الحكومة ومجلسي الدولة والشورى- بحتمية الدعم المالي لربات البيوت، وهي تتناغم مع المادة 15 من الفصل الثالث الخاص بالمبادئ الاجتماعية، وخاصة الفقرة الثالثة منها التي تنص: "الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والإخلاص والوطنية، وتعمل الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها"، وقد وُضعت لمنفعة ربات البيوت كل الضوابط الاستحقاقية التي تجعلها تفرق بين مجموعة المنافع الأخرى كمنفعة كبار السن، وعند تطبيقها سنجد أن مستحقيها من ربات البيوت سيكون عددهم قليلاً إذا ما استُبعد منتفعو منفعة كبار السن المقدرة بستين عامًا، لكن تأثيرها سيكون كبيرًا على دور ربات البيوت، ولن يختلف معي أحد على أن الوقت المناسب لاستحقاقها مواتٍ الآن، ويمكن استدامتها بعد التوجه نحو تطبيق ضريبة الدخل في البلاد.
ثانيًا: فتح أبواب التقاعد للمرأة العاملة لتشجيعهن على العودة الطوعية للتفرغ الكامل لقضايا التنشئة والتربية والتعليم والتوعية الوقائية من الظواهر السلبية بما فيها المخدرات بمختلف أنواعها، فأطفالهن وأولادهن بحاجة إليهن، وقد سألت أكثر من عشر أمهات بصورة عشوائية يعملن في قطاعات حكومية عن هذا المقترح، فكانت إجابتهن بالتمني، فهن يقعن الآن تحت ضغوطات نفسية كبيرة بسبب ضغوطات العمل وحاجة أسرتهن إليهن، فهذه الضغوط ستحد من دورهن في التربية والتعليم والمتابعة، حيث ستأتي الأم العاملة إلى بيتها متعبة محطمة، ستنزوي في حجرتها، ولن تتابع شؤون بيتها وأطفالها، مما سيترك هذا الدور لعاملات المنزل وللهواتف النقالة والألعاب الإلكترونية، وهذا عامل آخر يعزز دعوتي لعودة الأم للمنزل طواعية بعد فتح أبواب التقاعد لمن يرغبن منهن، وينبغي أن يرافق ذلك حملة إعلامية واجتماعية للتوعية الوقائية بدور الأمهات العاجل في مجالي التربية والتعليم ومتابعة الأبناء وتوعيتهم بالمخاطر، وتنظيم قضايا دخولهم وخروجهم من المنازل، والوقت المحدد لاستخدام الهواتف النقالة، واستعمال البرامج الإلكترونية ونوعيتها... إلخ، ودون ذلك، فعلينا تصور المشهد الاجتماعي وآفاقه في ظل ما نشاهد ونسمع كل فترة زمنية قصيرة وسريعة عن حالات مرعبة ما كانت تظهر فوق السطح لو كانت هناك إدارة تربوية وتعليمية من الأسر أو كان هناك وعي داخل الأسر... إلخ، وبفقدانها، سيكون لتأثير انسداد فرص العمل / البطالة مع تأجيل تطبيق منفعة الباحثين عن عمل، وصعوبة الحياة المعيشية وتعقيداتها في ظل التحولات التي أوضحناها سابقًا، بمثابة الأسباب المؤدية لتحويل الحالات إلى ظواهر ما بين صعوبة واستحالة حلها، وربما علينا أن نتأمل في هذه القضية المطروحة من زوايا تحديات أخرى جيوسياسية بالذات في ضوء التحولات الإقليمية التي تشهدها المنطقة بعد أزماتها العميقة الأخيرة التي لن تنتهي تداعياتها إلا بتحولات إقليمية غير مسبوقة، عندها سيتعاظم المسوغات التي تشرعن مقترحاتنا بما فيها منفعة الباحثين عن عمل، وتجعلها من كبرى الأولويات الوطنية، وهي الآن في طور السهل المستحق بأقل التكاليف، وقد لا تكون كذلك في مرحلة قادمة.