مُتعة التطواف

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

التطواف أمر في غاية الأهمية لكل إنسان عاقل، وهو من الأشياء البديهية التي تعطي للحياة نكهة ولذة كبيرتين، وفي هذه الجولة البسيطة أستحث خطاي ورؤيتي لأعبر محيطات وأبحر عظيمة قد لا يتأتى لكل واحد الذهاب لها أو رؤيتها بعين فكره لأنها قد تختلف من رؤية لأخرى.

وهنا مثار حديث حول الإجازة الصيفية التي تأخذنا إلى أنفسنا، ننظر لها بطريقة أخرى وننسج في حويّها مدناً من الأحلام والترحال التي نرجو تحققها، ومن ثم قد ننال ذلك أو تصيبنا خيبة الأمل لعدم تحقق ما ننشده منها، ومن ناحية مغايرة قد تمثل الإجازة فرصة للقراءة والسفر عبر سطور الحياة إلى مدن وأناس لم نشاهدهم أو نتعرف عليهم عن طريق الواقع المعاش، وهو أسمى أنواع السفر، قد تتمثل في هيئة مكان صوّره الكاتب بطريقته، وتصورَه القارئ بطريقته الخاصة أيضًا.

قد لا تكون الصورة واضحة لدى آخرين، لكن في النهاية هو أيضًا يتصور كما يشاء له عقله أن يتصوره فقد يستمتع وقد لا، وهنا يمكن للحديث أن يسلك مسلكا آخر، فالمسافر بالطائرة ليس كالمسافر وهو في بيته لكن كليهما يشعران باللذة ولو تراءى لكل واحد منهما منظر مختلف لنفس المكان؛ فمن رأى ليس كمن قرأ لكن الاستمتاع يبقى لدى القارئ لعمر أطول (شهر أو أكثر) من وجهة نظري، لأنه يعيش زمن الدهشة ويستمر بها حتى يقرأ كتابا آخر وهكذا يعيش في عوالم مختلفة، حتى يكاد يتفوق على الكاتب نفسه في تصوراته واندهاشاته ورسمه وحبه للمكان، بينما تبقى اللذة لدى الأول أقل مدة وربما تطول بفعل القراءة الأولى.

حينما نقرأ عن الأشياء المليئة بالحركة (الأسواق الشعبية والقرى، الرموز والمزارات المختلفة، المعالم وغيرها) ومن ثم تتاح لنا فرصة زيارتها ولم تكن قد غابت عن أذهاننا فإن استمتاعنا بها وجذوة اللهفة لرؤيتها قد يزيد، وقد نكرر الزيارة في سنوات أخرى، حتى ولو كانت قراءتنا قديمة وضمن ذكريات الكتاب المدرسي مثلا.

لذة السفر نفسية أكثر عن كونها مكانية؛ فالمراد إزاحة الأحمال عن النفس البشرية وتبسيط الحياة خارج إطارها المتكرر، المسافر أيضًا قد لا يقرأ عن المكان وإنما يسمع فيسافر، هنا ستكون المتعة (في الغالب!) وقتية ولن تبقى طويلا كالذي قرأ واستمتع حتى ولو لم يرَ ذلك المكان بعينه، فتصورات الذهن تسبق العين في كل الأحوال، خصوصا من تكونت لديه فكرة مسبقة من خلال قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم، أو استماع لمحاضرة.

رؤية المكان الذي قرأت عنه قد لا يكون بالحماس أو الأوصاف التي رأيته بها فتذوب عني تلك الدهشة وتبقى الخيبة ماثلة خصوصا وأنه لم يقدم لي ما أريد من متعة، حتى أن الأمر قد يؤثر حينما نقرأ عن شيء آخر، فيتوازى هنا هذا المسافر مع الآخر. 

السفر عبر الكتب يؤدي إلى نتيجة رائعة أهمها الإحاطة والمعرفة، كما يزيد من فرص التنقل بين المدن والريف والحواري الصغيرة في بلدان العالم حتى يكاد يعيش الأجواء ويستنشق رائحة البساتين والحقول ويستشعر مواسم العمل والحصاد، وينكفئ على نفسه لا يرغب بالخروج من لذته ثم يقرر السفر الجوي ليعيش التجربة، أو تُراه يكتفي بما عرفه واستمتع به.

الفرق بين السفر الجوي والسفر عبر الكتب أن السفر الثاني أسرع وأشمل ويؤدي إلى أماكن مدهشة كثيرة بل لا حصر لها في حين أن السفر الأول لا يعطي صاحبه حرية التنقل بين الريف الأمريكي والريف الأوروبي بهذه السهولة، بل لا يضمن له تذاكر السفر في الوقت الذي يريد، وقد تحدث عوائق كبيرة لا تحدث بالأساس مع السفر الثاني.

وعيْش تجربة التطواف عبر الكتب ليس صعبًا، وليس سهلا أيضا، لأن حب القراءة كذلك ليس سهلا، فمن رأى منابت العسل ومكامنه ليس كمن سلك طرقها ليحوزها، والتجربة القرائية التي يحظى بها كثيرون محظوظون بها، خصوصًا من انتقى من مُدنه (أقصد كُتبه) ما يستحق الغوص فيه والبحث عن جواهره ومكنوناته.

تعليق عبر الفيس بوك