هل نحجت قطر في تعزيز نموذج القوة الناعمة؟

 

د. خالد بن راشد الخاطر **

 

كثيرًا ما كانت تُثار مسألة الجدوى أو المكاسب الاقتصادية التي ستجنيها قطر من تنظيم بطولة كأس العالم، وعن نجاح نموذجها الرياضي، وأردُ بالقول إنه ليس نموذجا رياضيا بمعنى الكلمة، ولكنه نموذج قوة ناعمة.

في تصوري أن هدف قطر لم يكن استثماريًا بقدر ما هو التأثير من خلال القوة الناعمة، وهو إلى قدر كبير، امتدادٌ لنموذج قناة الجزيرة، وبعضها مزدوج الهدف، قوة ناعمة واستثمار، وأعتقد أن ذلك ينطبق على استثمارات قطر الرياضية الخارجية، وغيرها من استثمارات في أوروبا وبعض أنحاء العالم، والخطوط الجوية القطرية إلى حد ما التي ظلت تحلق في السموات المفتوحة إبان فترة جائحة كورونا بينما كانت معظم أساطيل الخطوط الجوية العالمية رابضة على الأرض، فالهدف حينها لم يكن اقتصادياً بقدر ما هو جيو اقتصادي، أي استخدام الاقتصاد، لتحقيق مكاسب سياسية، ومنها إبقاء اسم قطر حاضرا على الساحة العالمية، وتقوية علاقاتها الجيوسياسية، والتأثير في دوائر صنع القرار من خلال هذه الاستثمارات، لتحقيق مصالح قطر الوطنية، وهو هدف مشروع جدا، وتمارسه كثير من دول العالم.

وكذلك الهدف من تنظيم بطولة كأس العالم لم يكن اقتصاديا، وإلا لربما كان غير مجدٍ، مع تحييد ما تحقق من مكاسب ضمنية باكتمال بنية تحتية متطورة بسبب البطولة جانبًا، فالهدف كان تعظيم القوة الناعمة لقطر، الذي أكاد أقول إنه قد بلغ ذروته بتنظيم بطولة كأس العالم، التي يفترض أنها عكست أوج صعود قطر حتى الآن. فهل نحجت قطر في ذلك؟ أقول نعم نجحت، على الأقل على المدى القصير إلى المتوسط، ونترك الأجل الطويل، وآثاره الأخرى، ومنها السياحية والاقتصادية للزمن، فلا يمكن الحكم عليها الآن. لقد نجحت البطولة في تثبيت قطر الصغيرة جغرافيا على خارطة العالم، وفي العمل على تفكيك الصورة النمطية المشوهة عن العرب والمسلمين إلى حد كبير، ولكن ذلك بحاجة للبناء عليه، وللاستمرارية، ليس بواسطة قطر وحدها، ولكن غيرها ممن يفترض أن يهمهم هذا الأمر من الدول العربية والإسلامية، فقطر قدمت نموذجا ناجحا حري أن يحتذى به، وقد رمت بثقل تراثها وحضارتها العربية الإسلامية في سبيل تحقيق ذلك، ولو لبست ثوبا غيره، كما ألبست ميسي البشت، لما تحقق لها ما تُريد.

انتصار نموذج القيم

لا شك أن نجاح قطرالباهر ليس مجرد انتصار في تنظيم فعالية عالمية كبرى، ولكنه انتصار لمنظومة القيم والأخلاق ممثلة بالحضارة العربية الإسلامية على النموذج الغربي، الأشبه بالبهيمي الباحث عن المتعة بأي ثمن، من إدمان مسكرات ومخدرات، وشذوذ وانحلال، ولعل هذا سبب توتر الغرب واشتداد حملاته المحمومة مع اقتراب البطولة، وكأن هؤلاء قد أفاقوا من النوم فجأة واكتشفوا أن قطر هي من سيُنظم البطولة! وإن ألبست حقوق العمال، ثم المرأه، فالإنسان، فالشواذ، فالقطط، فالكلاب، وغيرها، والحقيقة أن تنظيم قطر للبطولة معلوم سلفاً لأكثر من عقد، ولكن المفاجئ كان ربما هو الطريقة التي ستنظم بها قطر البطولة، فكان يؤُمل أن تُجبر حملات الضغط هذه  قطر على تغيير موقفها والتخلي عن نموذجها القيمي الجديد للبطولة وذلك لعلمهم أن المنازلة ستسقط النموذج الغربي، بما لذلك من تبعات ودلالات على انحدار الحضارة الغربية وتحدي قيادتها للعالم.

التحديات المستقبلية: الاتساق والاستدامة

إن هذا الإنجاز يفرض على قطر تحديين، وهما الاتساق والاستدامة continuity and consistency؛ فالمحافظة على ما تحقق تتطلب الاستمرارية أو الصيانة، وإذا كان المستهدف الغرب، فإن التكلفة ستكون مرتفعة، وهنا تطرح مسألة الجدوى والاستدامة والأولويات، وفرصة التكلفة الضائعة، أي ماذا لو استثمرت تلك الأموال في مجال آخر، وليكن في القوة الصلبة مثلا؟ والقوة الناعمة قد تكون مكلفة بطبيعة الحال، وكذلك المحافظة على استدامتها وتأثيرها. ولذلك يجب التقييم والموازنة باستمرار بين المكاسب والتكاليف، بكل أنواعها. وقد عودنا الغرب على ضعف الذاكرة، في أحسن الأحوال، وإذا أضفنا لها العنصرية والاستعلاء، فهذا يعني جحود النصر، ونكران الهزيمة، وإن استيقنتها أنفسهم، فهذا الصنف لن يرضيه شيء وإن فرشت له الملاعب حريرا وطليت مقاعدها ذهبا، فقد أعمته الكراهية والاستعلاء والعنصرية، وكلما ازددنا نجاحا، كلما استشاطوا غضبًا، ولن يرضيهم إلا شيء واحد، وهو التخلي عن قيمنا وديننا، وتراثنا وحضارتنا، ونصبح توابع لهم، ولكن ما قيمة ذلك النصر حينها، وهل هو نصر لنا أم لهم؟

لذا أنصح بعدم الاكتراث كثيرًا، وإضاعة الجهد والمال في محاولة تغيير نظرة هؤلاء إلينا، فهناك من شعوب الأرض الصاعدة وغير الصاعدة منهم أولى وأكثر إنصافًا وتقبلًا، وأقل عنصرية من الغرب، وقد ثبت ذلك في بطولة قطر، والتحولات العالمية تسير في تغير الأوضاع السائدة لغير صالح الغرب على أية حال. ولكن في ذات الوقت سيكون لهذا النصر ردود أفعال، وستحارب قطر وعليها توقع ذلك، وإن كان بأبناء جلدتها، من أذناب الغرب من المنافقين العرب وهم كثير، وإن كنا لا نعدهم في العير، ولا في النفير، فوضعهم يثير الشفقة، يغيظهم كل نجاح لقطر، ونصر للأمة، غير أن فائدتهم الوحيدة، أنهم كالتيرمومتر، فكلما اشتد عويلهم ولطمهم، اعلم أن ذلك مؤشر على النجاح.

وللمحافظة على نجاح قطر والدفع به قدمًا ممثلة بنموذجها الأخلاقي والقيمي فيجب أيضا الاتساق، بحيث  يشمل المجالات الأخرى، من سياحة واستثمار واقتصاد، وغيرها، حتى يعطي قوة ومصداقية، وانطباعا موحدا، وليس صورا مشوهة، أو رسائل متناقضة، تهدم ما تم إنجازه.

لقد كسبت قطر من الجهتين، أمام خصومها بالخارج، والمتحفظين بالداخل، ممن كان لديهم بعض التخوفات، من تنازلات قد تخل بالقيم أو السيادة، أو نحو ذلك، وإن كان مؤقتًا، ولم يسع الجميع بالخارج والداخل، إلا الإعجاب والاحترام، ورفع القبعة والعقال.

** متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي

باحث زميل بمركز الاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي المستجد بجامعة كامبردج البريطانية

تعليق عبر الفيس بوك