حمد بن سالم العلوي
تظهر الفَرْنَجة في الإدارة بوضوح أكثر في الشركات العُمانية، وعلى رأسها الشركات والبنوك المحلية، ويدعمها في ذلك البنك المركزي العُماني للأسف الشديد، وكان الواجب أن يقوم البنك المركزي في هذا الجانب بتصويب مسار البنوك المحلية، تُرى هل بلغ بنا المطاف أن يكون حالنا كحال الفَرْنَجة أيام ازدهار الأندلس؟!
لقد سمعت سماحة الشيخ المفتي العام للسلطنة، وهو يتكلم في محاضرة عن أيام عز العرب في الأندلس، يوم كانت الأندلس مركز علم وإشعاع ثقافي، ويرسل الفَرْنَجة أبناءهم لطلب العلم إلى الأندلس، وكان أبناء الفَرْنَجة يترنمون ببعض الكلمات العربية، عندما يعودون لأوطانهم حتى يُقال عنهم إنهم مثقفون.
طبعًا؛ وقتذاك كانت أوروبا تعيش في جهل وتخلف، وهكذا تدور الدائرة، ونصبح نحن العرب في دائرة التخلف والضعف، فأصبحنا نترنم ببعض الكلمات الفرنجية في أحاديثنا العادية مثل: أوكي OK، والسوشيال ميديا Social media، وبرزنتيشن Presentation، وميتنج Meeting، ومينتننس Maintenance، وإنترفيو Interview، وغير ذلك الكثير من الكلمات الفرنجية، فصار حديث الناس لا يخلو من بضع كلمات فرنجية، وذلك حتى يُقال عن المتحدث إنه مثقف، فأصبح الكلام كمشْية الغُراب الذي أراد أن يقلد مشي الحمامة، فلا هو عاد إلى مشيته السابقة، ولا هو أتقن مشية الحمامة.
لقد كان هناك قرار في الثمانينات من الديوان السلطاني- وقتذاك- يمنع التخاطب داخليًا بغير اللغة العربية، وإذا استلزم الأمر يرفق بالأصل الذي هو باللغة العربية، ترجمة له باللغة الإنجليزية، وقد كان المرحوم جلالة السلطان قابوس- طيب الله ثراه- حريصا كل الحرص على التمسك باللغة العربية الفصحى، وكان يرفض الخلط في الحديث بين اللغتين، وحصل ذات مرة أن شرَّف مشروعاً لجهة ما، وكان مهماً جداً ويعتمد على التقنية الحديثة، وسأل الشخص الذي كان يشرح له عن ذلك المشروع، كيف سيُغطي أرجاء السلطنة، فقال: هناك (لينك Link) قالها بالخطأ، وكان الواجب أن يقول لدينا رابط يربط المركز بالمناطق البعيدة، فنظر إليه جلالته نظرة غضب، وغادر المكان تعبيرًا عن غضبه من ذلك الخلط، وهو العارف باللغة الإنجليزية، وربما غيرها من اللغات الأجنبية.
إذن.. ما بالنا نعود القهقراء اليوم، وقد أصبح المُجتمع العُماني أكثر تعليماً، وأعلى ثقافة مما كان عليه الإنسان العُماني في الأيام الأولى من عصر النهضة العُمانية، ولكن ليس معنى هذا التقدم العلمي والثقافي، أن يجعلنا نعطي الحق لأنفسنا، وأن نتخلى عن قيمنا وثقفتنا التي ظللنا نتوارثها جيلاً بعد جيل، ولا يجب أن يكون تعلمنا للغات العالم، مُبرراً للتمرد على لغتنا العربية، وأن نسمح بأن تتحول إدارة الشركات إلى اللغة الفرنجية، وكأننا في بلد غير عُمان، إلا إذا أردنا أن نسلم بلدنا للناطقين باللغات غير العربية، ونسهِّل للوافدين الإمساك بالإدارات المحلية بدلا منِّا، وفي المقابل نصعّب الأمر في وجه العُماني، الذي لا يجيد اللغة الإفرنجية، ونضع مانعًا مصطنعًا أمام الشباب العُماني، فلا يجد وظيفة سهلة، إلا من يتكلم بغير اللغة العربية، والغريب أنَّ العطاءات والمناقصات، لا تُجرى إلا باللغة الإنجليزية.. فهل يا ترى عزَّ على البعض، أن يترك عُمان تفاخر بنفسها أنها لم تكن مستعمرة بريطانية عبر التاريخ؟! كما كان وضع بعض دول الجوار، أو إمارات الساحل الغربي، فنأتي اليوم نحن بالاستعمار الثقافي مجانيًا من خلال فرنجة الإدارة المحلية، وبرضانا المعلن، أو بالصمت الذي يشي بالرضا.
إن من الدعائم الكبرى للتعمين، أن تكون القيادات في الدوائر العليا للشركات والبنوك بيد العُمانيين، بداية الأمر وهم من سيقوم بالتعمين في الإدارة، وأتذكر موقفاً حيّاً في هذا الجانب، وكان في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، يوم تسلُم الفريق أول سعيد بن راشد الكلباني مهامه كمفتش عام للشرطة والجمارك من القيادة السابقة، وكانت بالكامل إدارة بريطانية، فحمل مشعل التعمين في الإدارة والمناصب، ونجح نجاحًا باهرًا في ذلك؛ لأنه كان صادقاً وحازماً في الأمر، ولم يكن يخشى الفشل؛ لأنه وثق في الإنسان العُماني، وهو أول من أدخل التقنية الحديثة في عمل جهاز الشرطة، وذلك رغم شح الكوادر العُمانية في المجال التقني وقتذاك، في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، لذلك اليوم أصبحت خدمات الشرطة في مقدمة الإدارات الناجحة في البلاد، وقد استقطبت الكثير من المتخصصين العُمانيين، لأنها أزاحت من طريقها عقدة الفَرْنَجة والخوف من المجهول.
إذن.. لنوقف الفَرْنَجة المجانية في عمل الإدارات المحلية، ونثق في قدرات الإنسان العُماني، وسيعمل بروح وطنية خالصة على عكس من أتى ليكسب المال وحده، ومن ثم العودة إلى وطنه دون أن يخلف أي أثر يذكر بعده، بل كان يرغب - لو تتاح له الفرصة - أن يورث تلك الوظيفة لابنه، أو أحد أقاربه حتى لا ينقطع الإدرار عليه، والغريب في الأمر، أن بعض البنوك المحلية، لم تكتفي بفرنجة الإدارة وحسب، بل أتت بالوافدين وسلمتهم الوظائف القيادية العليا، وكأن عُمان لم تستطع أن تلد من يتولى تلك المناصب، برغم مرور 51 عامًا من النهضة العُمانية الشاملة، وذلك في كل الاتجاهات من مختلف التخصصات، وهذا حقاً أمر معيب في حق الوطن والمواطن.
إن غض الطرف عن الشركات، وتركها وما تراه هي من أمور الإدارة، فإنها ستختار أسهل الطرق للكسب السريع، ولكن هذه التصرفات لا تصنع اقتصاداً وطنياً قوياً ومستداماً، وإنما هذا التصرف كمن يقطف ثمار المواسم السريعة ويمضي، ولكنه حتماً لن يسير مع الأهداف الكبيرة والدائمة للوطن، وذلك وفقاً للرؤية المستقبلية "عمان 2040"، وسيشكل عائقًا طبيعيًا أمام خطط التشغيل للمواطنين، عندما تكون الفَرْنَجة شرطا أساسيا للمشاريع في العمل الوطني.. اللَّهُمَّ أني بلغت اللَّهُمَّ فاشهد.