مجاعة غزة.. حربٌ بلا غارات

محمـد الرنتيسي

كأنَّ غزة لا تكفيها القنابل والصواريخ لقتل الحياة فيها، فإسرائيل تشن حرباً أخرى لا صوت فيها ولا دخان، وقوامها سياسة تجويع ممنهجة، تخنق أكثر من مليوني إنسان.

وكأن مشاهد الدمار والقتل والنزوح أصبحت خلف الغزيين، إذ وحدها المجاعة القاتلة وسبل مواجهتها أضحت الشغل الشاغل للنازحين المجوّعين، وللمرة الأولى لا يطلب أهل غزة وقف الحرب كأولوية، فكل ما يهمهم مواجهة الفصل الأشد في حرب الإبادة.. الجوع الذي لا أحد من أبناء غزة يعرف إلى أين سينتهي.

إنها افتتاحية حقبة كارثية جديدة يعاد فيها تجويع غزة، على مدار 140 يوماً على الإغلاق التام لجميع معابر القطاع، و76450 شاحنة مساعدات إنسانية ووقود منعت إسرائيل دخولها منذ استئناف الحرب، و42 تكية طعام استهدفها الجيش الإسرائيلي في إطار فرض سياسة التجويع، و57 مركزاً لتوزيع المساعدات والغذاء استهدفتها الطائرات الحربية المقاتلة، و121 مرة، استهدف خلالها الجيش الإسرائيلي قوافل المساعدات والإرساليات الإنسانية.

لكن سياسة التجويع الممنهجة ليست أرقاماً فقط، بل معاناة يومية يواجهها شعب محاصر، يباد جماعياً ويقتل جوعاً، ومن يجرؤ في غزة على القول: "لا أحد يموت من الجوع"؟.

ولم تتردد إسرائيل في الإعلان صراحة عن أن جيشها يقتل المدنيين بالجوع في قطاع غزة، للضغط على حركة حماس وانتزاع تنازلات إضافية، كما أن كل قادة الجيش الإسرائيلي يصرون على تجريب أدوات قتل جديدة، بقطع الكهرباء والوقود والغذاء، وهكذا دخل قطاع غزة، الذي يئن تحت وطأة حصار مطبق، في مواجهة من نوع جديد، ومع أسلحة غير تلك التي تردي النازح في رمشة عين، إنها أسلحة الحصار والتجويع، التي تطال أكثر مما تتوقع.

ولا يحتاج الوضع في قطاع غزة إلى كثير تمعن لإجلاء خباياه وخفاياه، إذ وفق مراقبين، كل الخيارات لإنهاء الحرب والضغط لتحرير المختطفين، تبدو متوقعة ومستوعبة، باستثناء سلاح التجويع، الذي ترفضه القوانين الدولية.

ولا ينفك المشهد الفلسطيني يزداد تعقيداً بتعمق المجاعة في غزة، لتتسع متاهة الحرب التي دخلها الغزيون، في الوقت الذي اعتقدوا أن مسلكها له درب واحد، بمواجهة القتل والنزوح، لكن المجاعة أخذت تتدحرج لتصيب من تصيب في طريقها، ويهرع أهل غزة لقرع أجراس إنذار بدت بكماء، من كثرة استخدامها في خضم الحرب.

"كل مظاهر الحياة توقفت، ولم يعد بمقدورنا فعل شيء أمام الجوع، وليس بإمكاننا سوى التقلب على الأرض، لكن بإمكان الطائرات الإسرائيلية مواصلة ضربنا بكل قسوة، وتدمير ما بقي من قطاع غزة" هكذا وصف النازح عيسى الخالدي، المشهد الغزي، مبيناً أن مشاهد النازحين الجوعى فاقت التصور، ولم يسبق لأهل غزة أن توحدوا في صرخاتهم لوقف المجاعة، كما هو الحال اليوم.

فلم يتبق لأهل غزة ما يسدون به رمق أطفالهم ولشراء أي شيء وإن بسعر مرتفع، وكل أملهم أن تتوقف الحرب وهم على قيد الحياة، فقد برزت أعينهم وهزلت أجسادهم.

ولم تعد مشاهد الغارات المتواصلة وما يتفرع عنها من دماء وأشلاء، هي الفصل الأبشع في حرب غزة، فكل هذا وسواه، لا يعدل مشهد طفل يتضور جوعاً، بينما يقف والده عاجزاً عن تدبيره ولو بكسرة خبز.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة