خالد بن حمد الرواحي
أصبحت المؤسسات الحكومية اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتبني أساليب إدارية تتسم بالمرونة والاستجابة السريعة للمتغيرات. وفي ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، لم يعد من الممكن الاعتماد على النماذج التقليدية في الإدارة، حيث بات من الضروري البحث عن استراتيجيات حديثة تحقق التوازن بين الحوكمة والكفاءة التشغيلية. الإدارة المرنة تبرز كأحد أهم البدائل التي توفر حلولًا عملية لتحسين الأداء وتعزيز الاستدامة المؤسسية. ولكن، هل يمكن لهذا النهج الإداري أن يكون المفتاح الحقيقي للإصلاح في المؤسسات الحكومية؟
في ورقةٍ بحثيةٍ نشرتها خلال شهر مارس 2025 في العدد (77) من مجلة الباحث للدراسات والأبحاث القانونية والعلوم الإنسانية والشرعية وهي مجلة علمية محكّمة، تناولتُ دور الإدارة المرنة في تحسين كفاءة المؤسسات الحكومية، ومدى قدرتها على تحقيق استجابة سريعة للتغيرات التنظيمية وتقليل البيروقراطية. كشفت الدراسة أن المؤسسات التي تبنت الإدارة المرنة حققت تحسنًا في كفاءتها التشغيلية بنسبة 30%، مع تقليص الوقت المستغرق لتنفيذ المشاريع بنسبة 25%. لكن، كما هو الحال مع أي نموذج إداري، فإن تطبيق الإدارة المرنة لا يخلو من التحديات، أبرزها مقاومة التغيير، والعوائق البيروقراطية، وضعف المهارات القيادية المتخصصة.
وتشير التجارب الدولية إلى أن نجاح الإدارة المرنة يتطلب أكثر من مجرد تبني استراتيجيات جديدة، بل يحتاج إلى ثقافة مؤسسية داعمة وإصلاحات مستمرة في الأطر التنظيمية. في سنغافورة، على سبيل المثال، أدى اعتماد الإدارة المرنة إلى تسريع تنفيذ المبادرات الحكومية وتحسين مستوى رضا المواطنين عن الخدمات العامة. أما في الدول التي لا تزال تعتمد هياكل إدارية جامدة، فإن غياب المرونة يسهم في تعثر الإصلاحات، مما يؤدي إلى تباطؤ عجلة التنمية وضعف الاستجابة للتحديات الاقتصادية والإدارية.
ورغم أهمية الإدارة المرنة في تحقيق الكفاءة المؤسسية، إلا أن هناك تحديات تعيق تطبيقها الفعلي في العديد من المؤسسات الحكومية. أبرز هذه التحديات هو التخوف من التغيير، حيث يتردد بعض القادة والموظفين في التخلي عن الأساليب التقليدية لصالح نماذج أكثر مرونة. كما أن الهياكل التنظيمية المعقدة قد تعيق تنفيذ الإدارة المرنة، خاصة إذا لم تترافق مع سياسات داعمة تعزز من استقلالية فرق العمل وتحدّ من الإجراءات البيروقراطية غير الضرورية. ومن دون إصلاحات تشريعية واضحة، قد يبقى تطبيق الإدارة المرنة محدودًا، مما يقلل من فعاليتها كأداة لتحسين الأداء الحكومي.
لمواجهة هذه التحديات، أكدت الدراسة أهمية تطوير برامج تدريبية مكثفة للقادة والمسؤولين الحكوميين، بهدف تمكينهم من تبني مبادئ الإدارة المرنة بفعالية. كما شددت على ضرورة دمج التكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، لدعم عملية اتخاذ القرار وتعزيز كفاءة الإدارة. فالتحول نحو الإدارة المرنة ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة لتعزيز الحوكمة الفعالة وضمان استدامة الأداء الحكومي.
لا تقتصر فوائد الإدارة المرنة على تحسين الأداء المؤسسي فحسب، بل تمتد إلى تعزيز الحوكمة الذكية وزيادة الشفافية والمساءلة داخل المؤسسات الحكومية. وأظهرت الدراسة أن المؤسسات التي تعتمد الإدارة المرنة تصبح أكثر قدرة على الابتكار، مما يسمح لها بتحقيق نتائج ملموسة في تطوير الخدمات العامة وتحسين جودة السياسات الحكومية. وعندما يصبح العمل الحكومي أكثر تكيفًا مع المتغيرات، فإن ذلك ينعكس إيجابًا على بيئة العمل، ويرفع مستوى الرضا بين الموظفين والمستفيدين على حدٍ سواء.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل تكفي الإدارة المرنة وحدها لإحداث تحول جذري في المؤسسات الحكومية؟ تشير نتائج الدراسة إلى أن الإدارة المرنة تمثل ركيزة أساسية في أي عملية إصلاح إداري، لكنها بحاجة إلى بيئة داعمة تشمل تحديث التشريعات، وتطوير الهياكل التنظيمية، والاستثمار في بناء القدرات البشرية. فالإصلاح الإداري الحقيقي لا يتحقق بمجرد تبني نماذج إدارية جديدة، بل يتطلب التزامًا مؤسسيًا مستدامًا يضمن تنفيذ هذه النماذج بفعالية واستمراريتها على المدى الطويل.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن الإدارة المرنة ليست مجرد وسيلة لتعزيز الكفاءة، بل هي فلسفة إدارية تعزز من قدرة المؤسسات الحكومية على الاستجابة للتحديات وتحقيق التنمية المستدامة. المؤسسات التي تدرك أهمية الإدارة المرنة وتسعى إلى تفعيلها بشكلٍ حقيقي ستكون أكثر قدرة على مواجهة الأزمات وتحقيق التحول الإداري المطلوب لمواكبة المتغيرات العالمية المتسارعة.
وفي عالمٍ متغير، تواجه المؤسسات الحكومية تحدياتٍ متزايدة تتطلب نماذج إدارية أكثر مرونةً وكفاءة. لم تعد الإدارة المرنة خيارًا، بل أصبحت ضرورةً ملحةً لضمان استدامة الأداء الحكومي وتحقيق الحوكمة الذكية. هذا النموذج الحديث لا يقتصر على تقليل البيروقراطية أو تسريع العمليات فحسب، بل يخلق بيئةً ديناميكيةً تواكب التغيرات وتدعم الابتكار المؤسسي. إن تبنّي هذا النهج في سلطنة عُمان يتماشى مع رؤية "عُمان 2040" التي تسعى إلى تطوير الأداء الحكومي عبر تعزيز المرونة المؤسسية، وتحفيز الإبداع والتطوير المستمر.
في ورقةٍ بحثيةٍ نُشرت لي في شهر فبراير 2025، في مجلة أتلانتيس المغربية، وهي مجلةٌ علميةٌ محكمة، تناولتُ تأثير الإدارة المرنة على بيئة العمل الحكومي، ودورها في تعزيز كفاءة المؤسسات الحكومية، وتقليل البيروقراطية، وزيادة الابتكار. أظهرت نتائج البحث أن تبنّي الإدارة المرنة يسهم في رفع كفاءة الأداء من خلال تقليل الإجراءات المعقدة وزيادة الإنتاجية. كما يعمل على تحسين الشفافية والمساءلة عبر تطوير أنظمة تقييم أداء تعتمد على البيانات الدقيقة، إلى جانب تعزيز الابتكار المؤسسي من خلال تمكين الموظفين وتشجيعهم على تقديم حلولٍ جديدة، إضافةً إلى اتخاذ قراراتٍ أكثر سرعةً ودقة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة.
على المستوى الدولي، أثبتت تجارب ناجحةٌ أن الإدارة المرنة تلعب دورًا أساسيًا في تحسين الأداء الحكومي. على سبيل المثال، نجحت حكومة سنغافورة في تحقيق تحولٍ إداري عبر اعتماد أنظمةٍ مرنةٍ ساعدت على رفع كفاءة الإنفاق وتحسين جودة الخدمات. أما في بعض الدول الأوروبية، فقد أسهمت هذه المنهجية في تعزيز الشفافية وتقليل الفساد الإداري، مما أدى إلى قراراتٍ أكثر فعالية. في السياق العُماني، فإن تبنّي الإدارة المرنة يتماشى مع رؤية "عُمان 2040" التي تؤكد أهمية تطوير القطاع الحكومي ليكون أكثر كفاءةً واستجابةً لمتغيرات المستقبل، من خلال تحديث القوانين واللوائح الإدارية، وتبنّي أنظمة تقييم أداءٍ متقدمة تدعم التحول الرقمي.
ورغم الفوائد العديدة التي توفرها الإدارة المرنة، إلا أن تطبيقها لا يخلو من التحديات، أبرزها مقاومة التغيير، حيث يتمسك بعض الموظفين والإدارات بالنظم التقليدية، إضافةً إلى غياب التشريعات الداعمة التي تسمح بتطبيق هذا النهج بمرونةٍ أكبر، ونقص المهارات القيادية التي تفتقر إلى الخبرة في إدارة التغيير بفعالية. كما أن ضعف البنية التحتية الرقمية يعد عاملاً حاسمًا يعيق تحقيق الإدارة المرنة بشكلٍ مثالي.
لتجاوز هذه التحديات، يجب اتخاذ خطواتٍ استراتيجيةٍ تتضمن إصلاح القوانين واللوائح لضمان توافق البيئة التشريعية مع متطلبات الإدارة الحديثة، والاستثمار في التدريب والتطوير المهني لتمكين القادة والموظفين من مهارات الإدارة المرنة، وتعزيز دور التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في تحسين الأداء المؤسسي، إلى جانب خلق بيئةٍ تنظيميةٍ تدعم التجريب والابتكار عبر تبني سياساتٍ تحفيزيةٍ مرنة.
إن الإدارة المرنة ليست مجرد نموذج تنظيمي، بل ضرورة لمستقبل المؤسسات الحكومية في عالمٍ سريع التغير. تبنّي هذا النهج من شأنه أن يُحدث نقلةً نوعيةً في الأداء الحكومي، مما يسهم في تقديم خدماتٍ أكثر كفاءةً وشفافيةً واستدامة. ومع توجه رؤية "عُمان 2040" نحو تطوير القطاع الحكومي عبر تعزيز المرونة المؤسسية، يصبح التحول نحو الإدارة المرنة خيارًا استراتيجيًا يضمن نجاح المؤسسات الحكومية في المستقبل، ويعزز قدرتها على التكيف مع المتغيرات المستمرة في بيئة العمل.