كارثة كبيرة.. ولكن لا أزمة حكم!

 

 

 

حمد بن سالم العلوي

بدايةً، نتقدَّمُ بخالص التعازي للشعب الإيراني الصديق في مصابهم الجلل، وندعو الله أن يتغمد شهداء الواجب ويتقبلهم قبولًا حسنًا، وأن يُسكنهم الفردوس الأعلى من الجنة، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

إنَّ الذي وقع في إيران نتج عنه كارثة كبرى بمعنى الكلمة؛ وذلك عندما تفقد الجمهورية الإسلامية الإيرانية رئيسها ووزير خارجيتها في لحظة واحدة، بعدما سقطت بهما الطائرة العمودية التي كانت عائدة بهما من أذربيجان إلى طهران، وذلك في ظروف جوية قاسية، وفي منطقة جبلية شديدة الوعورة، وفي غابات كثيفة الأشجار، وفي ظل جو ماطر بغزارة، وثلوج تغطي المكان. إذن؛ كل الظروف المحيطة بالحادثة كانت تُنذر بفقدان الأمل في العثور على الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، وبقية رفاقهما أحياء، والذين قُدِّر عددهم بتسعة أشخاص مع الرئيس والوزير، وقد بذلت فرق الدفاع المدني جهودًا كبيرة في الوصول إلى مكان الحادث، وقد تأكد لفرق البحث والإنقاذ أن الجميع أصبحوا في عِدَاد الشهداء في سبيل الوطن.

لقد عبَّر الشعب الإيراني عن حزنه وآلامه على فقد هذين الشخصين المهمين، ليس بالنسبة لإيران وحدها، وإنما للأمة الإسلامية جمعاء، ومحور المقاومة، وكل الأحرار حول العالم، فإيران التي أخذت على عاتقها مناصرة الدول والشعوب المضطهدة من قبل دول الظلم والاستكبار العالمي -وذلك بقيادة أمريكا ولفيفها من الدول الغربية- فكلنا نذكر يوم كسرت إيران الحصار الذي ضربته أمريكا حول دولة فنزويلا، وغيرها من الدول الأخرى في أمريكا الجنوبية، فبعضها كان يتعرَّض لحصار عسكري وسياسي، والبعض الآخر كان يتعرَّض لحصار سياسي واقتصادي، وكان الأحرى بالصين وروسيا، أن تفعلا ذلك كونهما الدولتين اللتين تضارعان أمريكا في القوة والقدرة، ولكن وجدنا إيران هي التي فعلت ذلك تحقيقًا للعدالة الدولية، ورفعًا للظلم عن المستضعفين في الأرض.

الرئيس الدكتور إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته الدكتور حسين أمير عبداللهيان، شكَّلا ذلك الثنائي الفريد في إدارة السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد خالفا الظنون والشكوك التي دارت حولهما من قبل الكثير من المراقبين في المنطقة، وذلك على إثر فوز الأول بالرئاسة في إيران عام 2021، فهناك من كان ينظر إلى فظاظة وغلظة الرئيس الدكتور إبراهيم رئيسي، وذلك بالنظر إلى طبيعة عمله السابق في سلك القضاء ومكافحة الإرهاب، أو النظر إلى سمات وجهه الذي كان ينمُّ عن وقار وثبات في شخصيته -رحمه الله- تشي بالسمت والرزانة كرجل دولة حصيف، وكذلك بالنظر إلى حماسة ووطنية وزير الخارجية الدكتور حسين أمير عبداللهيان -رحمة الله عليه- فقد تنبأ الكثير من المراقبين بأن إيران مُقدمة على مرحلة تشوبها الخشونة والشدة، وذلك أكثر مما كانت عليه الحال أيام الرئيس الأسبق أحمدي نجاد، ولكن هذا الثنائي الرائع الذي ضمَّ الرئيس إبراهيم رئيسي والوزير حسين أمير عبداللهيان، قد خالف كل هذه التوقعات والظنون المتشائمة.

وذلك عندما قرَّرا انتهاج خط وسطي متوازن، فحققا ما لم يحققه غيرهم من المسؤولين الإيرانيين السابقين، فلم يكن من أحد أن يتوقع بأن تحصل انفراجة في العلاقة بين إيران والمملكة العربية السعودية، بتلك السرعة التي ذُوبت فيها تلك الخلافات الكبيرة، بحيث عادت على إثرها العلاقة المقطوعة بين البلدين إلى سابق عهدها، وكأن شيئًا لم يحدث بينهما، فكان هذا بفضل الفكر النير الذي تحلى به الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، وكان الوزير عبداللهيان نشطًا وصادقًا في إعادة نسج وشائج الأخوة، والمحبة مع كل دول الجوار، لا بل مع كل الدول العربية، ودول العالم المناهضة للاستكبار الأمريكي.

وعندما نقول إنَّ إيران تعرَّضت لكارثة كبرى، وذلك بوفاة هذين الزعيمين الكبير الرئيس ووزير الخارجية، فنحن صادقون في ذلك؛ لأنَّ الناظر إلى الدول من الخارج، لا ينظر إلّا إلى رئيس الدولة ووزير خارجيتها، وهذا الناظر لا يهتم ببقية المسؤولين في أي دولة أخرى، وبرغم هذا الحدث المهول، غير أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا تعيش أزمة حكم اليوم ولا أي يوم آخر، وذلك بسبب هذا الفقد الكبير، فربما ضبط الأمور والطمأنينة يرجع إلى موقع ومكانة المرشد الإيراني، الذي يعلو كل السلطات في البلاد، وهذا في المقام الأول. وفي المقام الثاني؛ تتكئ إيران على إرث حضاري يمتد موغلًا في التاريخ البعيد. وفي المقام الثالث؛ فإنَّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي يقترب تعداد سكانها من مئة مليون نسمة، لديها فائض كبير من الأشخاص الذين باستطاعتهم تغطية الشواغر في قيادة البلاد، فيا سبحان الله كلما أتى رئيس جديد لإيران، يأتي ليُكمل ما بدأه سلفه، ويأتي كذلك بالجديد الذي يحدث الفارق، وكذلك الحال بالنسبة لوزراء الخارجية، فمنذ قيام الثورة على الملكية في إيران عام 1979م لم يؤتَ بوزير خارجية سابق ليحل محل وزير خارجية راحل.

الذي يجري في إيران من استبدال للمسؤولين، لا مثيل له في الدول الأخرى، خاصة في الدول العربية؛ حيث يأتي المسؤول العربي الجديد ليهدم ما بناه سلفه، ومن ثم يقوم بالبناء على أنقاض ما تم تدميره، وإن لم يجد شيئًا ليهدمه فإنما يقوم بتغيير أثاث المكتب، والطاقم الوظيفي في المكتب، وتغيير السيارات، وطائرة الرئاسة، وهذا أقل شيء يمكن أن يُحدثه من تغيير، فهذه شكليات لا قيمة لها، ولكن من لا قيمة له في الأصل يعدها إنجازًا كبيرًا.

إذن.. أصبحت إيران تشكل اليوم أنموذجًا فريدًا كأمة مستقلة عن تأثيرات الخارج، وأصبحت تمثل حالة فريدة في المنطقة والعالم، وذلك في الحكم الشُّوروي الرشيد، وهي بذلك تعطي دروسًا في القوة والثبات، والاستمرارية في توطيد أواصر الحكم الناجع، الذي لا يختل ولا يهتز لغياب شخص مسؤول بعينه عن السلطة، ولا في كافة الظروف والأحوال.

حفظ الله إيران ونصرها على أعدائها، وجعلها نصيرة للمظلومين.. وعزاؤنا لمحور المقاومة لهذا الفقد الكبير، ولكن لا عزاء لدعم إيران للمحور المقاوم، فهو دعم باقٍ ما بقي النهج الثوري في إيران.

الأكثر قراءة