قراءة بين السطور

 

يحيى الناعبي

 

"الخير في الناس مصنوع إذا جبروا" جبران خليل جبران.

-----

في الأسبوع الماضي، عرضت شاشة تليفزيون سلطنة عمان مقتطفات من حديث حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- في ولاية منح بمحافظة الداخلية، ومن ذلك الحديث: "دور أولياء الأمور في تربية أبنائهم، وأثر الحياة العصرية في تغيير سلوك الأبناء بمراحلهم المختلفة والتي قد تصل أحيانا إلى سلوك الأجيال المتقدمة والذين هم بأعمار الآباء أيضًا (بين العشرين إلى الثلاثينات في العمر)، لو قارنّا هذه الأعمار مع متوسط أعمار الزواج في عُمان وبالطبع الإنجاب، مع غيرها من دول العالم".

الحديث حول تربية الأبناء لم يتوقف منذ بدء الخليقة البشرية، فهي مكون أساسي تقوم عليه عناصر عدة متعلقة بالمعرفة والبيئة المحيطة بأنواعها المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لذلك فإنَّ الدراسات العلمية والتدابير العملية حول هذا الموضوع مروجه شاسعة وخطاه واسعة، ومع تعقيدات الحياة وخروج الإنسان من دائرته الضيقة نحو الخطاب العالمي، وجب على الإنسان الاحتراس والاستعانة بالخبرات. في المقابل أيضًا يجب على المجتمع أن يشترك مع المؤسسة الرسمية في وضع التدابير والحلول الناجعة في الكيفية التي يعالج بها العراك الدائر بين الذات المحدودة والكون الواسع الذي أطلق رياحه وأعاصيره في فضاء النفس الإنسانية دون حدود أو قيود.

ساعد ذلك على خلق التمرد في ذات الإنسان وتجاوز كلّ الأطر والمحددات التي كان لها دور كبير في رسم الخصوصية والمبادئ التي تقوم عليها المجتمعات وأيضاً حياة الأفراد. لأن هذا التمرد ليس نابعًا من رصانة في الفكر والقناعة حول قيم التغيير؛ بل هي امتداد لمتاهة البحث عن الذات والوجود بلا قواعد أساسية مبنية على ثوابت رصينة. قد يعتبره هذا الجيل مسارًا طبيعيًا لتوالي الأجيال وهو في الطريق الاعتيادي لتعاقب الأجيال، لكن الحقيقة التي لا يدركها هو أنه يخطو خطوات تسابق الريح بسبب وجود آلة السرعة وفضاء الإنترنت الواسع، ولأن مجتمعاتنا بطيئة في مُعالجة الأمور، فمن الطبيعي أن نكون الضحية لهذا التسارع الذي تعدّى مرحلة الدهشة وأصبح في أعماق الفوضى التي تجاوزت المثل العليا في الحياة. ولم تتوقف عند حد التجاوز؛ بل إنه أصبح يمثل حالة انتصار شديد وحماسًا بالغًا كلّما تجاوز الفرد قيم الحياة وتعمّد إلحاق الضرر بنفسه أولًا وبالعالم المحيط به ثانيًا. ومن الواجب الأخلاقي والأدبي التطرق إلى هذه المواضيع ومواجهتها، من أجل جيلٍ ومجتمعٍ متزنٍ.

لقد أصبح الفرد والمجتمع اليوم عاجزين عن التصدي للظواهر الحديثة، بالتالي يجب أن تكون الحكمة في تسيير الأمور عبر الشراكة بين الفكر والسياسة، أو بين الاعتماد على المختصين في علوم النفس والمجتمع وبين القوانين التي تعتمد في طرحها وتنفيذها على العاملين الأولين "علم السلوك النفسي وعلم الاجتماع".

بهذه الشراكة والتوافق يمكن السيطرة بنسبة كبيرة لوقف جماح التمرد الذي يعيشه الإنسان المعاصر. وقد سعت الكثير من الدول إلى تكوين مؤسسات متخصصة في ضبط العلاقات الإنسانية داخل مجتمعاتها.

إن خلق الضوابط في تنظيم الحياة لا يأتي بالترهيب والقيود؛ لأن المواجهة بين عالم افتراضي وواقع هش، لا يمكن معالجته سوى بالحنكة القائمة على عنصري اللين والشدة، والتركيز على الجوانب العاطفية مع الحزم؛ لأن الفرد ومن ثم المجتمع أصبحا مغلوبين على أمرهما، وتحولت القضايا الاجتماعية من اختيار فردي في بداية الأمر وقناعة أحادية، إلى ظواهر عامة تجاوزت حالة الاختيار لديهم، وكأنما اجترار قطيعي، وتقليد غير مرتبط بالفكر الحر والقناعة والإشباع الذاتي، وهذا ما يمثل الخطورة في الموضوع.

على المؤسسة الإعلامية بوسائلها المختلفة أن تكثِّف طرحها في استقطاب المختصين وممن لهم دور معرفي في البحث والتقصي حول السلوك الفردي بأجياله المتعددة والسلوك الاجتماعي في ظواهره المختلفة وأيضًا أولئك المختصين في التشريع وسن القوانين. وعلى المؤسسة البحثية طرح دراساتها حول هذا الموضوع لتكون بين يدي القارئ، والأهم من ذلك يجب على منظومة التعليم أن تغيّر من الطريقة التقليدية في جعل الطالب عنصرا مستقبلا، بحيث يكون عنصرا مشاركا بما يسمى التفكير النقدي (creative thinking).

لقد تعمدتُ في هذا المقال تجنب ذكر الكثير من الظواهر الخطيرة في المجتمع والمتسارعة في انتشارها، والتي لا يلاحظ مدى خطورتها سوى المُراقب عن بعد، وآن الأوان أن يُلتفت إليها بشدة.