للجهل والاستبداد حكاية

 

يحيى الناعبي

عالمنا العربي مثقلٌ جدًا بالمشاكل، ونستطيع أن نلّخص حكايته في نفق مظلم من الجهل والاستبداد. وبقدر قسوته تكمن هشاشته؛ لأنَّ الاستبداد الذي يتسابق الجميع في أدواره هو نتاج تراكمات من الجهل الذي يعصف بذوات البشر دون أن يستنيروا بالعلم، فأصبحت أذهانهم جاحدة للعلم، راكدة في التفكير والمنطق، وأوصدوا أبواب المعرفة حتى لا تكون منارًا يضيء طريقهم، وتسمّرت أفكارهم ورؤاهم في المكابرة والتصلف والتزييف.

إن العلم والاستبداد طريقان مختلفان لا يلتقيان، كل له عالمه ومساره عكس الآخر. فلا يستطيع الاستبداد التشدق بأهمية العلم والمعرفة في منحاه وسلوكه العام والخاص. ولا يستطيع العلم مجاراة الاستبداد في حرية فكره وطاقته الإبداعية؛ فالاستبداد دائرته ضيقة محصورة في المركزية والأنا العقيمة، بينما العلم مجاله شاسع واسع، يستمد طاقته من الحرية في السؤال ويغذي عالمه في اختلاف الآراء والأفكار والمصائر. ويقول عبد الرحمن الكواكبي: "الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع، والمُشتكي المُتظلم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح، ويُصبح كذلك، النُّصْح فضولا، والغيرة عداوة، الشهامة عتوّا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضا، كما يعتبر أن النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لُطْف والنذالة دماثة".

لقد أصبح عالمنا العربي اليوم متخبطاً بين عقول مدّعية الوصاية في المجالات المختلفة، أسيرة الجهل والتخلف في تنظيم سير حياة الشعوب ومستقبل الأجيال. عقول هشة غير واثقة من معرفتها وغير مسؤولة في سلوكها، تلجأ إلى فرض آراءها، غير متسامحة ولا تتقبل الفكر الآخر، تنهش بعضها البعض بالتآمر، والكيد بالطرق الرخيصة، والوسائل العبثية. إنِّه عالم القبح والتقبيح في نظرته نحو فكر الآخر، وليس متابعا وشارحا ومفسرا وناقدا؛ بل إنه وكما ذكر الكواكبي أيضًا "يعيش خاملا فاسدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته".

من أهم عوامل التخلّف ومكونات التراجع في هذا العالم المترامي هو الوهم المستشري في عقول من هم يديرون الكفّة ويقدّرون موازين الأمور. هذا الذي خدّر فيهم مشاعر العمل الجاد المبني على توزيع المهام والتشاور والبناء. الوهم الذي أصبح أرضا خصبة للمريدين والمتسلقين والأفاقين، وأصبح شريعتهم ومقصدهم في التسابق من أجل الوصول نحو المركز. في حين أن المركز واهم بالتّفرد والنبوغ والسلطة، محاط بنخبة الزيف والخدعة التي يغذي عناصرها تلك النخبة المؤثرة القائمة على الكذب والتسويف والظلامية.

هذه النخبة التي مع مرور الزمن أصبحت تمثل مرجعيات للسياسة والدين والفكر والثقافة بأنواعها، واستغلت الوسائل المتاحة لتقلل الهوة بين الفكر الحرّ والمآرب الشخصية، مستهينة بعقول الشعوب مع اتساع رقعة الجهل واللاوعي الجمعي، مما أدى إلى تمدد قطر التيه والعجز عن التفكير بين العامة، لأن مسرح التمثيل زوّد بآلات ومعدات قادرة على تشويش ذهن الآخر نحو التصديق مستغلة حاجته وضعف حيلته جيلا بعد جيل. وبالتالي، استغل المستبد عجز العوام وشتات تفكيرهم ليصبح مصدر قوته وغطرسته.

الغريب في الأمر والعجيب في أحواله أنه سرعان ما تتكشف فقاعة الوهم وهالة الضباب بعد أن يسقط أحد أفراد النخبة وتتزحزح قيمته، حينها تتكالب عليه الأقوال ويكشف سرّه وزيفه في مشهد مهين يوازي هالته وصورته المزيفة في الماضي. ومع مرور الزمن يبدأ في التشكي ورداءة الحال وكأنما استفاق من تأثير المخدر الذي كان يغذي عقله. وللأسف الشديد فإن هذا السلوك أصبح منتشرا في عالمنا العربي بطريقة يرثى لها ويشفق عليها، ليس فقط على ذلك الواهم، بل حتى على الأوطان وشعوبها.

إن غياب ذلك البصيص من التوازن بين السلوك ونقده، أفقد الرغبة في التعاطي مع المعيار الحقيقي للحياة وأصبح العيش كمن يعلف لا كمن يتلذذ. إن الفقر في حقيقته مرتبط بالفكر والوعي وليس بالمادة، فطالما هناك وعي متّقد وفكر مستمر عند الشعوب انكمشت سلطة المادة على الأفراد وأصبحت ليست بذات الأهمية، لأن قيمتها تنمو عند الحاجة وليس مع الجشع. والحاجة قليلة بين الشعوب الثرية بفكرها وثقافتها ووعيها.

وهذا يستخلص لنا، أن ما تعيشه النخب المثقفة والفكرية في العالم العربي في غالبيتها جزء من الزيف والخداع الذي ذكرناه سالفا وللسبب أعلاه في العلاقة بين المعرفة والاستبداد.

فهل هناك تناسب بين قضايا العالم العربي والدراسات الفكرية والأدبية في وقتنا الحالي؟