عالم الظل

 

يحيى الناعبي

 

إن الصيحة التي أطلقها القرن الواحد والعشرون في نشر المعلومات والبحث عنها ساعدت على تيسير الاطلاع على العلوم والمعارف. وقد تشكّلت صور المعرفة في أسلوبها المكتوب والمرئي. لكن في الوقت ذاته كثرت الشكوك وازداد الارتياب حول صحة ودقة هذه المعلومات، بسبب يسر قيود النشر والتزامه الأدبي والأخلاقي. لم تعد تخضع للمراجعة والتدقيق، بل إنها المعلومة أصبحت موضع إغواء وإغراء ومقاصد لنتائج خطيرة.

ولكل مكان روحه التي تنّظم أفكاره وتسيّر حركته؛ لذلك فإنَّ المستحدث والطارئ من العوارض في الفكر يحدث خللا في ثقافة المكان ووعيه ويسبب تخبطاً في سياسته وإدارته. إن النسيج المستحدث في روح المكان مختلف ومُتباين في سلوكه وعقائده وفكره عن تلك التي اعتاد المكان وأهله السير عليها. فما بالك إذا كان هذا المسلك واهم ومن الصعب تحديد ملامحه، ألا يؤدي بنا إلى طريق وعر؟

لقد استغلت في عصرنا الحالي هذه الضبابية عند نشر المعلومات ونقلها، واتسعت رقعة المتبنين لها لكي يكونوا بمنأى عن المساءلة، وهناك من يعتمدها كي تكون مدخلا لمقاصد أخرى لا يجرؤ على نشرها دفعة واحدة. القضية الكبرى التي تعتور هذه الظاهرة أنها أصبحت وسيلة للمؤيد والرافض لذلك الفكر الذي تم نشره وتداوله. فهناك على سبيل المثال حسابات وهمية تؤيد ما تمَّ نشره وأخرى تعارض ذلك، وجميعها ساكن في الظلّ لا يستطيع القارئ أو المتابع تحديد كنه مصدره ومن أي جهة كان. فقد تجد الكثير من الحسابات تمثّل أفرادا تستنتج ذلك من أسلوب الكتابة وطريقة طرح المواضيع وعرضها على القارئ، في المُقابل تجد حسابات أخرى تستنتج أيضًا من خلال أسلوبها أنها تتبع جهات رسمية. الخطورة في مثل هذه الظواهر هو أنها تمثّل حرب الظل عند المتابع للقضايا المطروحة، وأنها بذلك لن تكون سوى جريان أو مسرى في وادي الشائعات وتلفيق التهم بين الأطراف. قد يعتبرها البعض متنفسا للتسلية أحيانا، ولكنها في حقيقة الأمر هي وسيلة لتراكم الآراء والملاحظات لتتحول إلى فكر قد يعتمده الكثير منّا في أحكامه وترسخ في مبادئه، خصوصا وأن مستوى الاختلاف في العقل والتفكير متفاوتا بين الأفراد.

قد يقول قائل إن هذا المتنفس صحي للمتلقي، وإنه من خلاله ينفّس عن المكبوت في سلوكه وآرائه؛ بل إنه يؤمن أن النقد المظلل هي طور من أطوار الحياة يتم اعتناقها بما لا يستطيع البوح والإقرار به. لكنه في حقيقة الأمر، فقد أثبت فشل هذه الوسيلة في تجارب عدة وتحول من أداة للتسلية والفكاهة إلى فعل سلبي. كل ذلك بسبب روح المكان وتاريخه التي تختلف عن مثل هذه الظواهر، التي تسللت إليه كما يتسلل الماء بين الصخور الصلبة والجدران القاسية محدثاً أثراً بالغاً وجدولاً عميقاً. فإنَّ القضايا التي لا تُعالج في العلن تكبر وتتعاظم لتصبح آفة ووباء يصعب احتواؤها ومعالجتها. لذلك، فإنَّ التجارب الجادة تراقب هذه الحالات وتفّك رموزها ولا تسمح بتجاوزها بعض الخطوط، بل على العكس تُسارع في تداولها على العلن ومناقشتها أمام وسائل الإعلام كي لا تصبح ظواهر يعتمد عليها القارئ في طرح القضايا والمشاكل.

نعلم أن مجتمعاتنا تستمتع وتزدهر في عالم الظل والمواربة بسبب غياب الجرأة في الطرح، حتى وإن كانت أهدافه نبيلة وهادفة. كل ذلك بسبب الوصاية والمركزية. لكن، هل يتناسب ذلك مع روح المكان ومنشأه الأخلاقي والفكري؟

إن التسابق المحموم نحو هذه الأساليب والطرق هو علامة تراجع لعدم المواجهة، وكلّما أجل ذلك أكثر كلّما كانت أضراره أكبر. فالمقال هنا يخلو من إصدار الأحكام أو النتائج لقضايا بعينها، بل هو يقتصر على إبداء الملاحظات والآراء حول المآل الذي يستقبحه الجميع ويستنكره، ولا تعني القضايا هنا سياسية، بل قد تكون اجتماعية أخلاقية تهم الحياة اليومية للأفراد. فالقصد هو تفعيل البديل ومناقشة كلّ ما يطرح حول هذه القضايا في العلن وعلى وسائل الإعلام وليس في حسابات الظّل والتمويه. أليس الرسم الكاريكاتوري يحمل في طياته قضية، وأن لكل لوحة فنية رسالتها الخاصة؟ فما بالك بمن يرمي سهام الكلمات في حساب إلكتروني خاص؟

إذن الأجدى أن تناقش الأمور بوضوح وسلاسة وشفافية، ليس بغرض التجريح، ولكن بغرض البناء؛ فالمجتمع اليوم يتغور بقضاياه التفاصيل الدقيقة والضرورية.