فوزي عمار
ثمة فارق بين أن تتعلم كيف تفكر وفق وعي نقدي، تكون البوصلة فيها للخير والحياة والنماء، وبين أن يكون عقلك مثل جراب ممزق، يضع لك فيه الآخرون ما يشاؤون، فتردده أنت مثل الببغاء، مساقا لهم، بوعي أو بدونه، لتصبح تدور في حلقة مفرغة مثل الثور في الساقية. أشد أنواع الاستعمار، هو الجهل.. وأشد أنواع الجهل، جهل المتعلم! خاصة في إشكالية "الأدلجة" ودورها في خلق وعي زائف، يصعب التخلص منه.. فالمعدة أذكى من العقل؛ لأنها تتخلص من الملوثات التي تدخلها بسرعة، عكس العقل الذي يحتاج لسنوات طويلة لذلك.
لقد مرت عدة شعوب بالحروب الأهلية في عدة دول في قارات مختلفة من أمريكا إلى أوروبا وأفريقيا، وحصدت الملايين من الأرواح.. والسبب الرئيس- من وجهة نظري- يتمثل في عدم الوصول إلى وعي مفهوم الشعب، والوطن، والأمة؛ لأن هذه الحالة تحتاج إلى نضج ووعي نقدي؛ فاختلاف الحالة العِرقية والدينية والقبلية، قد يقود لحروب في غياب مفهوم التعايش السلمي بين مكونات الشعب المتنوعة، والمتباينة عرقياً ولغوياً ودينياً وحتى قبلياً، والتي تتحول إلى تنوع يثري الدولة، في حالة السلم الاجتماعي، والعيش المشترك، ولا يضعفها.
الحرب الأهلية هي إحدى آليات الصيرورة التاريخية، للوصول لمفهوم الشعب والأمة، خاصة إذا لم يتبلور مفهوم الهوية الجامعة، عند عقلية العامة من الناس المختلفة التي تعيش على رقعة جغرافية واحدة، لتكون دولة، وفق التعريف القانوني للدولة وهو شعب وحكومة وإقليم، خاصة عندما تفشل النخبة في قيادة الجموع، لتصل لانفصال تام مثل ما فعل الإخوان في السودان، فبدلاً عن نموذج دولة متنوعة الأعراق مثل سويسرا وماليزيا.
وبين هذه وتلك، نجد العديد من النماذج الفاشلة والناجحة، ودولة الحد الأدنى "Minimal State"؛ وهو مفهوم سياسي محدد، يتحدث عن بداية تأسيس كيان الدولة، في حدود محدودة للسلطة، وبداية انصهار الشعب في وطن واحد، بعيدًا عن الأطماع والأحلاف من الدول الكبرى، التي تتعارض مصالحها مع غيرها من الشعوب غير الناضجة، خاصة في سيناريوهات الطاقة والمياه اليوم.. فتسعى هذه الدول لإزاحة خصومها وفق نظرية المؤامرة، أو وفق نظرية المصالح والموارد. فالدول ليست جمعيات خيرية؛ بل لديها أطماع في ظل عالم يتناقص الموارد. من جهة أخرى، وفي أحيان كثيرة، نكون نحن الخطر الأكبر على أنفسنا وليس الآخر. وما يزيد الطين بلة حين يرسم لك الآخرون الإطار، وتعتقد أنك تُحقق انتصارات، هي شروخ وندوب سوف تعيش في جسم الوطن لسنوات طويلة، خاصة منها تمزيق النسيج الاجتماعي بعد أي حرب أهلية. شخصياً، أؤمن بنظرية المؤامرة.. وأكبر مؤامرة علينا هي أن نُترك لوحدنا!
وهم المعرفة
فارق كبير بين المعرفة التي تجدد نفسها والأيدلوجيا الجامدة.. فمن المسلم به أن الأيديولوجيا لا تنتج خطاباً مضاداً لها.. ورغم الدور المهم للأدلجة في التعبئة وراء المشروع السياسي، إلا أن مشكلتها عدم خلق وعي نقدي خاص بها مثل المعرفة الذي يصحح إنتاجه ويتجاوز أخطائه وبذلك يتجدد ولا يتجاوزه الزمن، كما إن مشكلة طرح الأدلجة أنها تصل إلى نهايات دون مقدمات صحيحة، وبينما يطرح العقل إنتاجه في الإطار النسبي ترى الأدلجة إنتاجها أنه المطلق والنهائي والأبدي والأخير.
ومن هنا لا تواكب العصر وتقع في فخ الحياة في الماضي بديكور الحاضر وتلجأ إلى اللغة، وتستنجد بالخطابة والتخوين وسجع الكهان، وكل وسائل الهجوم دون إقناع أو نتائج حقيقة على الأرض.
حتى المعرفة إذا لم ترتبط بالأخلاق لا خير فيها. لقد استعمل الغرب البارود لقتل سكان أمريكا الأصلين وأوروبا المسؤولة من جهة أنها نهبت أموال أفريقيا فترة الاستعمار، ومن جهة أنها مارست لسنوات عدة سياسة الاستقطاب، وقدمت ماكينتها الإعلامية الضخمة والبروباجندا (الدعاية) الغربية، قدمت الأيديولوجيا الغرب على أنه النعيم الأرضي فاليسار في أوروبا هو الذي اللهم الكثير من الثورات في أفريقيا، والرأسمالية الغربية هي التي استنسخت منها الأحزاب الإفريقية برامج عملها، وفشل اليسار الأفريقي واليمين معًا في تحقيق مشروع نهضوي وتنمية مستدامة في أفريقيا.
لقد شاهدنا انتفاضة في الشارع الفرنسي والأمريكي مؤخرًا، والتي جاءت في حقيقتها لتجديد المشروع الرأسمالي الذي أصبح مؤدلجا أكثر منه مشروع معرفي أو مشروع أخلاقي. أما عندنا في الشرق، فإننا نخلط بين الأدلجة والمعرفة.. لقد عشنا لفترة طويلة في وهم الأدلجة التي تطرح في شكل المعرفة فلم نتقدم؛ بل أعدنا تدوير معرفة قديمة لتجمدنا في ذلك العصر، حتى في الشكل بحجة دعاوى المحافظة على الأصل.
يقول المفكر الليبي الصادق النيهوم: "الجاهل ليس من لا يملك شيئاً، بل هو من يملك معرفة سلبية وهو مستعد من أجلها أن يضرب رأسك ليقنعك بها".
الجوع التاريخي
تُعاني شعوبنا العربية من جوع تاريخي، وهو الجوع الممتد عبر الأجيال من جد إلى أب وحفيد، حتى أصبحت سمة سلوكنا. الجوع التاريخي في الأكل الذي نسرف فيه بشكل مبالغ.. ولم أجد تفسيرًا لهذه الظاهرة، التي أصابت شعوبنا بالأمراض مثل الضغط والسكر وغيرها من الأمراض، بسبب الجوع التاريخي. وهو جوع النفس التي أمرنا الله بترويضها بالصيام وليس بالأكل. الجوع التاريخي ليس في الأكل فقط، بل هو متعدد الأماكن والأشكال، فنجده في المال والسلطة وباقي الملذات وأهواء النفس؛ بل تجاوز الجوع التاريخي المعقول، فها هو في الألقاب، من: الدكتور والشيخ والأستاذ والمهندس والحاج والأفندي، حتى خارج المهنة المتعلقة باللقب؛ بل دخلت المجتمع بسبب الجوع التاريخي للمكانة، بدلا من أن تكون ألقاب وظيفة مختصة بمكان العمل. الجوع التاريخي سبب لنا خروجنا من المجتمعات الديمقراطية، نتيجة جوع ساستنا التاريخي للسلطة. فظاهرة الجوع التاريخي في حاجة لدراسة معمقة. ولكي نصبح شعوبا سوية، لابد من التخلص من الجوع التاريخي في الأكل والمال والسلطة، وغيرها من ملذات الحياة، حتى نعطي العقلَ دورَ القيادة، ليخرجنا من أزماتنا وأمراضنا التي أظن أن السبب الرئيس في أغلبها هو الجوع التاريخي. ربما المقبول وما نحتاجه هو لحاجة إلى جوع من نوع آخر مثل الجوع للتعليم والوعي كخطوة أولى للخروج من المأزق التاريخي الذي سببه لنا الجوع التاريخي.