شهادة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة!

 

د. حميد بن مهنا المعمري‎‎

halmamaree@gmail.com

 

سألني ابني، وفي نغمة سؤاله أشتمّ رائحة النَّصر والشهادة: متى نستلم الشهادة يا أبي؟ قلت: أيّ شهادة تقصد؟ أتقصد حصولك على درجة الشهادة في سبيل الله التي تكون نتيجتها الجنان أو تقصد الحصول على كشف الدرجات نتيجة عامٍ دراسي مضنٍ بخيره وشره؟!

قال وقد تغيَّرت نغمة صوته إلى بحة خجولة، ورأيت ألوان قوس قزح السبعة على وجهه: أقصد كشف الدرجات المدرسية. قلت: غدًا، "وإنّ غدا لناظره قريبُ". وجاء الغد مسرعًا، ليكشف عن الحقيقة الصادمة أنّ كل ما في كشف الدرجات من علامات (أرقام أو رموز) يصرخ بصوت عالٍ إنها لا تشبه الطالب ولا يشبهها، ولا تخصه ولا يخصها لا من قريب ولا من بعيد، ولا تنتمي إليه ولا تعرفه ولا يعرفها، وأنّ اسمه عليها بهتانٌ وزورٌ يتصدَّر كشف العلامات! حتى رمز (الهاء) الذي جثم على صدر مادة الموسيقى وتبرأت مادة الموسيقى من الموسيقى وجعلها تصدر أنينًا، وينبعث منها نشيج يشبه النشيد الإسلامي الخالي من العزف واللحن، تلك (الهاء) التي من معانيها الرمزية في كشف الدرجات تعني السقوط في الهاوية، وما أدراك ما هِيَ؟! تتبرأ منه كذلك، وتدعو الجهات المختصة إلى إنصافها من أنصاف المتعلمين، وإلا ستُغادر مدينة حروف الهجاء إلى غير رجعة!

سبق أن طرحت في جريدة الرؤية المتألقة برؤيتها الثاقبة التي تستشرف بها المُستقبل البعيد، موضوعًا بعنون: "في بيتنا غشَّاش ومُغشِّش"، وجاءت نبوءتي فيه كفلق الصبح؛ لأننا نحن اليوم نحصد ثمار في بيتنا غشاش ومغشش.

وما قد سلف القول فيه، ليس من باب التشهير بأحد أو من نافذة إلقاء اللوم على طرف دون آخر، أو من فتحة سقف الترف الكتابي الذي يعاني منه البعض، (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} وإنّما من باب ونافذة لفت نظر المعنيين بالأمر، وخطورته على الأجيال، ومن ثمّ الأثر السلبي الذي سيجر ويلاته على الوطن الغالي. وما قد قلته وما  أقوله، وما سوف أقوله عندي عليه شاهدٌ ودليل، أما الشاهد فالطلاب وأولياء أمورهم، يفيض الاعتراف من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر، وهذا الذي يُسمى وشهد شاهدٌ من أهلها، وأما الدليل؛ فالمستويات المُتقاربة بين الطلاب، وتلاشي وغياب ما يسمى بالفروق الفردية بينهم، أضف إلى كل ذلك؛ فالكتب المدرسية التي تمَّ تسليمها مقابل استلام كشف الدرجات، تلك الكتب عندما تقتحم صفحاتها، وتسطو عليها من جانب ظهرها أوبطنها تخالها جديدة برائحتها الزكية المنبعثة من بين صفحاتها تعطر الأجواء -عند من يحب هذه الرائحة- وكأنها لم تفتح إلا مرتين، مرة عند استلامها ومرة عند تسليمها، ونضيف مرة ثالثة -على خجلٍ من أولياء الأمور- ساعة الاختبار!

وإنّه مما يؤسف عليه حقًا، أن نجد أنفسنا أمام معضلتين لا ثالث لهما سوى خطر الإصابة بإدمان الأبناء للأجهزة اللوحية الذكية، التي تمتص تركيزهم، وتبتلع تفكيرهم، ومن ثَمّ تركلهم أغبياء.

أوَّل هذه المعضلات وأشرسها الفاقد التعليمي الذي انحدر بالطلاب إلى مستويات متدنية لا يفرقون فيها بين التمرة والجمرة، وفاقد أخلاقي وقِيَمِي انتكس بالطلاب إلى هاوية الغش، وبأولياء الأمور إلى دَرَك التغشيش، وبهذا أصبحنا أمام مأزقٍ حقيقي لا مهرب ولا منجى،  ولا مفر منه، إلا بالهروب منه!

أدركت وزارة التربية والتعليم الموقرة خطورة الفاقد التعليمي لدى طلاب المدارس وطالباتها، فاستنهضت الهمم لإقامة ندوة تحمل عنوان الفاقد التعليمي، لكنها لم تدرك بعد خطورة وكارثية الفاقد الأخلاقي لدى الطلاب، وبالتالي لم نرَ مثل ذلك المُؤتمر الذي حشدت فيه الوزارة الموقرة الطاقات، للخروج بتوصيات سنجد صداها في واقع الطلبة في قادم الأيام، مع أن الفاقد الأخلاقي- كما يعرف الجميع- لا يقل ضراوة وخطورة من الفاقد التعليمي؛ إذ ما قيمة علم بلا أخلاق؟! وما فائدة جيل بأكمله انغمس في وحل الغش، وسيصبح غاشّا لرعيته ولوطنه؟! فالشهادة إن لم تكن شاهدةَ عيانٍ على مستوى طلابنا علمًا وخلقًا، ستكون ولاريب "الشهادة" شاهدة على الغش والتغشيش.

تعليق عبر الفيس بوك