خط أحمر!

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

 

"أنا مستعد لمقايضة كل شيء بعدم فقدانها، هذا الفقد يحفر ثقبا في الروح لا يردم". أنسي الحاج

*****

أرسل لها:

  • أسرعي!
  • خمس دقائق، وستجدني عند الباب!

وانطلقا إلى أحد المراكز التجارية للتّسوق، ثم أعادها إلى المنزل، وقال لها:

  • نصف ساعة وأعود!
  • إلى أين؟
  • إلى أمّي.

كتمت غيظها، لأنّ المُتزوج -حسب وجهة نظرها- التي لم تتوانَ عن إيصالها له بشتى الطرق والأساليب، يجب عليه زيارة والدته مرّة واحدة في الأسبوع، ولم تترك مقطعاً أو رسالة تُعبِّر عن الرجل (البيتوتي) اللصيق بزوجته؛ إلّا وأرسلتها له!

بينما كان أمجد في قمة شعوره بالرّضا عن نفسه كزوج مُخلص، وربّ أسرة مثالي، ومتفانٍ في خدمة أسرته، والدليل على ذلك تحمّله ألم ساعة كاملة من الانتظار في مركز التسوق!

  • ساعة؟
  • بل ساعة وعشر دقائق! أو عام؟ كما يفعل العشاق الذين يقولون لمن يُحبّون بأنّ اليوم في غيابك كأنّه سنة!
  • تلك حالة خاصّة بالعشاق! لكنّ الأمر مُختلف لدى بعض الأزواج!

وبالنسبة لأمجد فهو من الرجال الذين يكرهون مُرافقة زوجاتهم إلى الأسواق، فلا ألم يُضاهي ألم الانتظار وهو يُراقب زوجته وهي تتنقل ببطء بين أروقة المحلّات.. أو تزحف كما يصف مشيتها أثناء التسوق! باحثة عن قميص (كحلي) ليتناسق مع بنطال (أزرق نيلي) اشترته منذ عام أكبر من مقاس ابنهما الزمني!

وعندما استعجلها أشارت بيدها؛ ليذهب إليها ويُساعدها في الاختيار، وأيهما أكثر ملاءمة، الكحلي المزرق، أو الأزرق النيلي؟

فشعر كأنّه مُصاب بدوار البحر وهو منتصب القامة وسط عشرات الملابس والأحذية!

فتأففت لفشله في إسعافها، وتنهدت كأنّها أنجزت أكبر مُهمة في العالم، وهي التنسيق بين قميص وبنطال لولد لم يتجاوز العامين بعد!

ووجد نفسه عاجزاً عن إدراك فلسفتها في شراء القطع الكبيرة، ثم تخزينها، والعودة ثانية للبحث عن توأمها المفقود! إلى أن وصل إلى قناعة تامّة بأنّها مكيدة لإعادته للتسوق مرّة، واثنتين، وثلاث، ليكون ملازماً لها؛ لا يُفارقها كظلّها!

أو بمعنى أدّق، تشغله عن الذهاب إلى والدته!

لكنّه لن يعدم حيلة في الذهاب إليها، أو في استعادة نشاطه الذهني في جلسة ترفيه مع أصدقائه في أبعد مكان في أطراف المدينة! وليواسي بعضهم بعضًا:

  • حريم!

تلك الكلمة التي كما كان يرددها والده- رحمه الله - بطريقة ساخرة من غيرة والدته، ومواجهتها له بالدليل الدامغ على أمور -كما يقول- من نسج خيالها؛ فيحدثها بهدوء حتى يزيل هواجس الشك، ثم يُغادر مبتهجاً، بعد أن ينجح في طمس أشياء كثيرة يُخفيها في عالمه الخاص.

لكنَّ أمجد لم يكن لديه عالم خاص، بل أمٌ مُسنّة مُقعدة، تُقيم مع شقيقه الكبير، يذهب يومياً؛ لرؤيتها والاطمئنان عليها، ويتناول ما تُقدمه له من طعام، أو قهوة من يدها المُرتعشة، ويتأمل العروق البارزة، والتجاعيد التي تمتد إلى قلبه حبّا وعطفاً، ويتمنى لو تسكن معه، ليعتني بها؛ لكنّها ترفض مُتعذرة بارتباطها بالمكان.

مضت الساعة الأولى، فأرسلت زوجته:

  • أين أنت؟
  • سأعود حالاً.

مرّت خمس دقائق أخرى، فأرسلت ثانية، ثم أرسلت رسالة صوتية، ثم اتّصلت؛ فأغلق المكالمة، وأرسل لها:

  • دقيقة!

نهض من مكانه، وقبّل رأس والدته، وهاتف زوجته عندما صعد السيارة:

  • أنا في الطريق، هل أحضر شيئاً معي؟
  • عُدْ بسرعة فقط!

أغلق الهاتف، وشعر بأنّه وصل إلى قمّة توتره، بسرعة.. بسرعة!

وكأنّ جميع الأحداث السيئة تحدث في الساعة التي يسرقها من يومه لرؤية أمّه، بعد ساعات العمل، وساعات التسوق التي تخترعها، وأحياناً تدخل للتسوق وتخرج بجوارب فقط!

وحاول إصلاح الشرخ الحادث في علاقة زوجته بأمّه لكنّه فشل فشلاً ذريعاً وأدرك أنّ كل كلمة تنطقها أمّه تعتبرها زوجته إساءة، حتى كيف حالك؟ أثارت توترها ذات مساء، فخرجت من منزل عائلته مكفهرة الوجه، وعندما صعدت السيارة سألها:

  • ما بكِ؟
  • أمّك!
  • ماذا قالت هذه المرّة؟
  • قالت لي كيف حالك وابتسمت!
  • يبدو أنّك مجنونة!

ففتحت نشرة ردح ردّا على كلمة مجنونة، مما أثار ذعر الصغير؛ فبكى، وقالت له:

  • كفّ عن البكاء، وإلّا ضربتك، فأنا مجنونة كما يقول أبوك!

ولم تكفّ عن الردح حتّى نامت!

فوقف أمام السرير يتأملّها ومزيج من الشعور بالرحمة والغيظ يعتملان في صدره تجاهها، وفي الصباح الباكر طلب منها أن تجهز حقيبتها، وحقيبة ابنهما، لقضاء الإجازة في إحدى الاستراحات الجبلية، ثم بلع ريقه بعد أن ابتسمت، وقرر تأجيل النقاش عن علاقتها بوالدته، حال وصولهما إلى الاستراحة، فحركة عيونها المتوترة توحي بأنّ بقايا كلمة مجنونة ما زالت عالقة في دماغها!

  • أو عيونها!

ثم ضحك بعد أن غادرت، ضحك كثيراً من حركة عينيها وهما تنظران في جميع الاتجاهات كرصاصات طائشة من بندقية لا تستهدف العدو بقدر ما ترغب في إفراغ ما في جوفها!

فعادت إليه بعد سماع ضحكه، ورمقته بطرف عينها:

  • لم تضحك؟!

فتح هاتفه على إحدى النكَات، دون أن ينتبه إلى محتواها، وناولها الهاتف؛ لتقرأ:

"هل تعلم أنّ المتزوج حين يعتبر زواجه ناجحاً يفكر بتكرار التجربة؟"

فقالت كالملدوغة:

  • نُكْتة سخيفة، وكاتبها تافه.
  • قلتِ.. نُكْتة.. نُكْتة.
  • ولماذا كنت تضحك؟
  • لأنّها.. نُكْتة!
  •  اسمع.. إذا تزوجت سأذبحك!

وأشارت إلى عنقه بحركة توحي بالذبح!

فضحك، أو بالأحرى تصنّع الضحك ليُحافظ على هدوء أعصابه، وابتعد عنها ليردّ على اتصال شقيقه الذي أخبره أنّ زوجته مريضة، وسيذهب بها إلى المستشفى، لذلك يجب عليه الذهاب إلى والدتهما والبقاء معها إلى أن يعود.

ولم يكد يُخبر زوجته؛ حتّى استعر غضبها:

  • أمّي.. أمّي! لا يوجد في حياتك شيء آخر غيرها! ثم إنّ شقيقك حاسد! لماذا اختار الذهاب في نفس اليوم الذي أردنا فيه الخروج!
  • زوجته مريضة.
  • كاذبة! تدّعي المرض، وأنا مُتأكدة من أنّهما سيذهبان في نزهة.
  • اهدئي، لماذا لا نأخذ أمّي معنا؟
  • نأخذها؟ امرأة كبيرة مسنة تتحرك ببطء، وتتناول الكثير من الأدوية؟
  • أعيدي ما قلتِ؟

كرَرَت جملتها، فقال:

  • إذا أنتِ تُدركين أنّها مُسنّة ومريضة، فهل من الرحمة، ومن البرّ، أن أتركها؟!

تأففت وخرجت وأغلقت الباب بكامل قوتها، بطريقة أثارت غضبه، فتبعها، وقال لها:

-     علاقتي بأمّي خط أحمر، فهمتِ؟

أرادت الحديث معه؛ فحدجها بنظرة غاضبة:

  • اصمتي.

غادرا بعد نصف ساعة، وذهب إلى أمّه بعد أن أوصل زوجته إلى منزل عائلتها، وعندما جلس قربها سألته عن زوجته وابنه، فأخبرها بأنّها ذهبت لزيارة أهلها؛ لأنّها لم تزرهم منذ مدّة طويلة، ثمّ تمدد قربها ووضع رأسه على حجرها كما كان يفعل عندما كان صغيراً..

 وضعت يدها المُرتعشة على رأسه، كأنّها أحسّت بغليانه، مسدّته قليلاً، ثم مسحت شعره الذي بدأ يغزوه المشيب رغم أنّه لم يتجاوز الثلاثين بعد؛ فسرت برودة في عروقه امتدّت إلى قلبه، وانتعشت روحه الذابلة وهي تدعو له بالصلاح والرزق، وطول العمر.

 

(النهاية)

 

A7lam.alyamam@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك