عصا موسى

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

عصا سيدنا موسى عليه السلام، العصا القاهرة والساحرة هبةُ الرب، ولا يخفى على أحد مُعجزاتها الجمَّة، يتكئ عليها ويهش بها على الغنم، ويضرب بها الحجر فتنبجس منه اثنتا عشرة عينًا، كما إنها شقت البحر يوماً.

تمنيت أن تكون لي عصاً لها بعض تلك المزايا، ولكن يا ترى لو اِمتلكتها الآن ماذا كنت سأصنع بها؟

تُعد الصحافة الاستقصائية أشد أنواع الصحافة ضراوة وقوة وقاتلة كذلك، وتعرف بأنها "بلاغٌ لمن يهمه الأمر" فهي تنبيهٌ بأنَّ ماسورة النتانة قد انفجرت واغرقت الحيَّ بالقذارة، إنها صحافةٌ تهتم بالفساد السياسي والمالي والجرائم الخطيرة. يتحتم على مُحترفي هذا المجال التفرغ التام والعمل المضْني في البحث والتقصي، لذا قد تكون عواقبها وخيمة، تنتهي بمحاولات اغتيال مُدبرة، فمن أشهر الفضائح التي ارتبطت بالصحافة الاستقصائية قضية "وترجيت" والتي أطاحت برئيس الولايات المُتحدة، حيث فجَّر الصحفيان كارل برنستين وبوب ودورد كواليس قضية وترجيت وانتهت باستقالة الرئيس نيكسون. وطال الاغتيال صحفيين استقصائيين كثر، أشهرهم اغتيال الأميركية دورثي كيلغالن في 1965 مسمومة، وذلك لأنها توصلت لمعلومات مُهمة قد تغير مسار قضية اغتيال الرئيس جون كنيدي، ولا ننسى "وثائق بنما" الشهيرة والتي أودت بحياة المدونة المالطية "دافني كاروانا غاليزيا" في 2017، وذلك على خلفية كشفها فساد مسؤولين مقربين من رئيسة الوزراء المالطية. تعددت الأسباب والموت واحدُ، ولكن لم يثنِ الخوف والتهديد عزيمتهم وإرادتهم في الكشف عن المستور.

هل اكتشفوا حقيقة وقوة عصا موسى التي شقت البحر وفجرت الصخر واتكأت عليها الحقائق فقط؟ لعلها الفطرة الإنسانية في تحقيق العدالة والمساواة، ما أحوجنا إلى عصا موسى، لتطرق ملفات الفساد ونهب المال العام، هي قضايا لا تسقط بالتقادم، وإن كان هناك حديث عن بعض نماذج التقارير الاستقصائية في الصحافة العُمانية وبالتأكيد لا تتجاوز سقف المسموح به.

قد يعتبر البعض أنَّ عملية ("شر الغسيل القذر" هي تشويهه للأشخاص تهدف إلى قطع أَوشاج العلاقات والروابط الاجتماعية، ولذا من الأسلم أن يجنح إلى الستر، ولكن أليست السرقة والرشوة حراماً؟ وتعد من الكبائر؟ وحدّ السارق قطع اليد؟ ولما الربط بين المرتشي والدولة؟  فهو فرد وليس الكل.

أضحى "الستر" مطلباً عُرفياً، في المجتمعات التي تقدس الأعراف فتشكل من "الستر" قُبة حديدية تحمي المرتشي والسارق، فلا تستغرب انتشار القطط السوداء، فقد قيل من أمن العقاب "سيطيل اليد"  و" المال السائب يعلم السرقة".

فماذا لو أطلقنا العنان لعصا موسى أن تبحث وتستقصي، وتجمع القرائن والأدلة الدامغة الموثقة، التي لا تقبل دحضاً فينكشف المستور، ألن تكون عصا موسى أداة كاشفة ورادعة في الوقت ذاته؟ ألن تساهم في ضبط قياس الميزان؟ فنأمن من أن يتأرجح كفته نحو جهةٍ واحدة. أم ننتظر استشهاد مُعتنقي الإيمان واليقين والصبر بالأمل؛ وذلك لأنَّ كفة السلم والستر للمرتشي والسارق قد رجحت، وذلك  حتى لا نؤذي مُقل الأعراف.

هل ليّ أن أتوهم بأن يُرفع سقف السلطة الرابعة قليلاً، فتضرب عصا موسى المتكئة على أُسُس البحث، والسرية، والحيادية وسبر أغوار القصة صخرة "الستر" فتنبجس أعين الحقيقة وتنشر تقريراً شاملا ووافيا وحياديا وواقعيا مقرونا بالأدلة. هو أفضل مئة مرة من "الصيَّد في الماء العكر"، كما هو الحال في نشر المنشورات، والتغريدات المغموسة بالسمّ. عصا موسى السحرية الحادة والقاطعة والرادعة، قد تكون أفضل السُبل المُحايدة المتاحة، وهي خيرٌ من زفاف فاخر مُترف أقيم على أنقاض جنازةٍ لفنانٍ مشهور، تفتح صندوق الباندور وتنبش سؤالا مطمورا: من أين لك هذا؟!