قيادة المجتمعات بين الضرورات والتحديات (2-2)

قيادة التحديات

سعيد بن أسلم الشحري

في المقال السابق كان الحديث عن القيادة في ظل الضرورات وربما جر بنا الحديث ما شئت أن تقول وأيقنا أنَّ القيادة في تلك المرحلة تواجه لحظات عصيبة يخيل لها أنها النهاية وأن الصراع من أجل الوجود لم يكن مطلقاً نذير شؤم فحسب، بل عندما تتفق مقدماته مع نهاياته، فنحن أمام سيناريوهين، التسليم لما كان وترك العبث والفوضى يقودان المشهد إلى المجهول أو أن تحولها القيادة المكينة لمُحفز، تمتحن فيه حقائق الأمور وقاطرة نعبر من خلالها نحو الإصلاح والتجديد والمجد. فكل ضرورة عاصفة كانت في يوم من الأيام تحدياً، فتراكم المشكلات الصغيرة والقفز فوق مُعاناتها دون حل سيضاعف ما كان، بل وسيولد تحديات أخرى أكثر ضراوة، فهي متغيرات لم يعد الصبر فيها قادرا على التحمل ولا الصمت قادرا على الكتمان. في لقاء اليوم سنحلق متحدثين عن القيادة في ظل التحديات، وأول هذه التحديات هو غياب الوعي الاجتماعي عن تحديات المرحلة الحاضرة وهو غياب تمتزج فيه الحقائق بالشكوك والآمال بالآلام، أمل أن يصبح العقل الجمعي للناس يدرك ما على الفرد فهمه وإدراك أن الدولة مثلما تقوم على توظيف القوى والموارد وإدارة المصالح الداخلية، فهي بلاشك تسعى وتعلم أن الرؤى العظيمة لا تتجلى ملامحها ويقوى عودها إلا حينما يكون الوعي الاجتماعي مدركاً قيمة الأحلام في حياة الأوطان بل وتصبح سماء الأحلام أكثر اتساعاً، عندما يربط الفرد أمنه الذاتي بأمنه القومي، جاعلاً من وعيه الاجتماعي شريان حياة في جسد الوطن. فالأفكار العظيمة تظل رهينة في عقول شعوبها وهي بذلك لن ترى الوجود إلا إذا تحولت إلى قناعات تُؤمن بها القيادات الحكيمة التي تحول الدراسات إلى سياسات والأهداف إلى قرارات.

فالتجربة الماليزية خير شاهد على ما نقول، لاسيما عندما تتعامل الأمم مع أقدارها بتواز مع قدراتها، بل في المحكات الحضارية نحتاج أحياناً أن نجعل من مضامين القوة حصنا ورافدا في التعامل مع حسابات الأزمة، فنهضة ماليزيا في نظري وجدت نفسها في كنف ثلاثة مصائر، اقتصاد مثقل ولم تكن أثقاله بحاجة لاستقراء، فالفقر المدقع وارتفاع نسب البطالة ودخل يعتمد الزراعة كمورد خالص وعصب لاقتصاد الدولة. أما المصير الآخر فهو وعي اجتماعي غارق في صراع ديني وتناحر عرقي وهويات قومية وحدتها الجغرافيا وفرقتها المصالح وعصفت بها أثقال التاريخ. أما المصير الأخير فهو أشبه بالهبة الربانية منه إلى الصراع، فلقد كانت ماليزيا في موعد مع قدر أبعد ما يكون عن أجندة الدول المُتهالكة جراء الفساد وتركة ثقيلة من النار والدم، لكنه يظل مبررا في عالم التغيير والتعاقب بين الإنسان وحركة الكون، لأنَّ القيادة المُلهمة لرئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، أدركت منذ اللحظة الأولى أن توجيه الوعي الاجتماعي نحو الغايات الكبرى، إنما هو ضمن صناعة النهضة وقيادة الرأي العام من أجل إعادة ضخ فكرة المواطنة في نفوس الناس، فالوطن للجميع مهما تنوعت مكوناته وتعددت انتماءاته.

ومهما يكن من شيء فقد يتساءل البعض، لماذا يغيب الوعي الاجتماعي أو قل يتوارى عن التأثير ويكتفي بالتأثر من بعيد؟الحق أننا قبل ذلك سنرى أن للوعي أحوال شتى، فالوعي المأزوم قد نكون متعسفين في الحكم لو اتهمناه أنه سلم عقله لسلطان الهوى طواعية واختار صمته عوضاً عن المشاركة والممارسة للفعل المجتمعي، فهو ليس مأزوماً على مستوى الحضور فحسب بل وفي هويته وما يبثه في الناس من روح الهزيمة والسلبية والتأصيل للمؤامرة والبرهنة أن أزمات الداخل عصية عن الحلول وتجاوز الحدود، فما أشبه ذلك بمقولة أن البعض يتذكرون الحقوق وينسون الواجبات.

أما الوعي المجتزئ فهو لم تصل فيه شجاعة الشك إلى مشارف الحقيقة، فتارة تجده فاعلاً ومؤثرا إلى أقصى درجات التأثير وقلقاً إلى درجة الإحجام تارة أخرى.، لأنَّ الاجتزاء ربما مرده النظر للعالم من زاوية ضيقة أو إن شئت ضبابية بعض الأحداث والممارسات الاجتماعية والسياسية والمواد الإعلامية الموجهة، فتكون وعياً يراوح بين انحياز غير مقنع أو عداء غير مبرر. والحق أن الوعي التالي الذي أراه محركا للحياة وراسماً للسياسات ولا يخلو من المساءلة عندما نتحدث عن تجليات التاريخ وحركة الأمم الحضارية، كما إنه عصب الدولة وحصنها ألا وهو الوعي النخبوي، فلقد أطلق عليه نخبوي من اصطلاحه الذي أتى من كلمة فرنسية لاتينية وتعني الأقلية المنتقاة أو المختارة، فلا مجال لمناقشة معايير الانتقاء باستفاضة، لكننا نظن أن الاستعداد والقدرة على التأثير في الجماهير والنفوذ الاجتماعي ويقظة الضمير كل ذلك وغيره قد يكون مدعاة للقبول ما بين محاباة نافذة لا تقبل التبرير وبين الموضوعية التي هي محل ترحيب وإجلال، من هنا كانت حسابات السياسة تختلف عن معادلات العامة، فكلاهما أقرب للتخمين منه إلى اليقين.

ففي الوعي النخبوي نجد أنفسنا بين نخبة من رجال الاجتماع والسياسة وقادة الفكر والمال بل والنخب الدينية وهو حال جرت فيه عادة الزمن وفصول الأيام، فالمجتمع ينقاد برؤية نخبته التي توفرت لها أسباب العلم والثقة وبراعة التدبير وهي محمودة كما يجب أن يكون الحمد وتتكلف من أسباب المشقة والعناء ما تطيق ولا تطيق، مستشعرة تلك اللحظات الحاسمة من محكمة الضمير الإنساني، فإما أن تصنع وعياً اجتماعياً يقود السفينة إلى مرافئ التقدم والازدهار أو أن تخلف وعيا مضطربا يعيش صراعا مع قيم عصره، فلا يُمكن لأي مستقبل أن ينشأ في ظل قطيعة مع الحاضر، لاسيما عندما يدرك الوعي النخبوي أن سلطته في ذلك مطلقة. سنعود إلى إجابة سؤالنا عن علة غياب الوعي.

والحق أنَّ الوعي لا يغيب إلا إذا فقد قدرته على التفكير بل قل يضعف عندما يُوقن أن حظوظه في الوجود أقل من إمكانيته على التأثير وأن المكاسب محفوفة بالمخاطر. والحقيقة ما تطرقنا إليه آنفاً عن توصيف الوعي ربما يوضح بجلاء الكثير من مضامين السؤال ويجعلنا مقدرين الدور الذي تتولاه القيادات في ظل التحديات ببالغ المسؤولية والجهد الكبير، فما بين صناعة للوعي تقدر الحقوق وتعظم الواجبات إلى الاستعداد للتحولات الثقافية وما يستبد بالمجتمعات من انتهاك لرقعتها وتآكل لهويتها وهو من التحديات التي تستدعي منا النفس الطويل في مجاراتها، فمعاركها لا يمكن حسم جولاتها سريعا، خاصة ونحن أمام ضيف ثقيل يدخل بيوتنا دون استئذان ويعصف بالفكر والقيم إذا جعلنا من أدوارنا مباهاة لا مسؤوليات وحل التبرير مكان التدبير .فالثقافة مكون اجتماعي يجمع عناصر كثيرة كاللغة والدين والعادات والتقاليد والفنون والآداب بل والأنماط المعيشية التي تستدعي التباين والتنوع. وإذا كان هذا تعريفاً للثقافة بعموم الاصطلاح، فلن تستطيع أن تتجاهل الثقافات المحلية وما انطبع فيها من خلط بين ما هو خاص يتعلق بأحوالها وإدارة علاقاتها وما هو خارجي بفعل التأثيرات المحتملة للأفكار والتجارب العابرة للقارات.

فأحياناً الاكتفاء بمعرفة العدو الذي يُهدد وجودنا يفقدنا القدرة على تصور أن أفكاره التي تملك خاصية التجدد والبعث أخطر كثيرًا من معرفة هويته وجغرافيته، بل ومع إيماننا أن كل تحول ثقافي يتبعه بالضرورة تصدع في الهرم القيمي وبناء لتصورات جديدة وإدراك لمفاهيم غائبة، تزيد حدتها وتتضاءل وفقاً لمعطيات حجم الوعي الاجتماعي، العلاقة بين الأولويات الأمنية والاستحقاقات الوطنية، المشاركة الفاعلة بين النخب الفكرية المُختلفة والرهان قبل ذلك وبعده على رؤى الدول وطموحاتها، ومدى استعدادها لخوض غمار الفرص والنمو والرفاهية، فالتدافع والتنافس والبحث عن المكاسب طبيعة إنسانية بحتة.

إنَّ التحولات الثقافية الكبرى تبدو عاصفة، حين تكون نسبة طموحاتنا أقل من المخاطر التي تُهدد كياننا والمجازفة بهوياتنا الوطنية تحمل رهانات خاسرة، خاصة عندما لا نفرق بين ما يحمينا وما يستغلنا ونظن أنَّ الخروج من الأزمة أهون كثيراً من التعرف على تضاريسها الوعرة.