الهوية الثقافية وتحديات النهضة (1- 2)

سعيد الشحري

saidomani2020@gmail.com

قد يظن البعض أنَّ الربط بين الهوية التي ينظر لها البعض كالملاك الوديع الذي تخدشه الكلمات وتتأزم بالعنف وتتغير بالأهواء والأمزجة وبين مقتضيات النهضة التي تميل للتحليق بجناحين عالياً مهما كان الارتفاع مقلقاً.

فإذا صارت النهضة مصيرا تسير خلفه الشعوب بكل ما تحمل من أمنيات وآمال كانت الحاجة إلى هوية تصبغ منجزاتها بلونها المختلف وأصالتها المتميزة، فلكل دولة نشيدها وعلمها الوطني بل ولباسها التقليدي. فكيف نتخلى عن الثابت وقد شكل وجداننا وامتزج بقلوبنا ومشاعرنا وأضحت الآمال فيه أقوى من التحديات وسلاحاً تتضاءل أمامه أصوات المدافع وصرخات العدو؟  كل ذلك استجابة لضغوطات تمارسها عولمة متوحشة تمد يدها إلى ما تطول وتنتزعه من جذوره دون رحمة بعد أن تطل بوجودها على الجغرافيا.

في المقابل نتمسك بالمتغير الذي هو مجرد سلعة تخضع لسلطة السوق بلا إرادة أو مقاومة .فالهوية الثقافية لأي إقليم جغرافي تحمل بصماته وجيناته من مجموعة القيم والأفكار التي تميز مجتمعاً عن آخر في إطار خصوصية تاريخية وحضارية متواكبة مع ما يضيف إلى حياتها عندما تطول الثوابت وما استقر في عقلها الجمعي من تصورات للإنسان والحياة. وهي بذلك تعبر عن الهوية الوطنية كونها منظومة خصائص تميز مجتمع دون غيره في إطار الجغرافيا والتاريخ المشترك وشراكة واحدة في الحقوق والواجبات ومرجعية وطنية مهما تنوعت في أطرافها يظل تنوعًا ضمن وحدة الأرض والمصير الواحد.

فنحن أمام هوية ثقافية تتنوع وتمتد ولا تضيق ذرعا بتعددية المعتقدات الدينية أو العرقية بل ويحق لها أن تتخاطب كما تشاء بلغات ولهجات تتشابه أحياناً وتختلف لتصل للافتراق في أقاليمها. فالاستقرار والوحدة الوطنية مفاهيم تسير في أحضان وعي اجتماعي يعلم أن الاختلاف والتعدد هو حق وضرورة قبل أن يكون صراعا وإقصاء بل إن ما وحدته سنة الله تعالى في خلقه لن تفرقه قوى النزاع وسماسرة المال والدم، إذا كان المجتمع رشيدا يعي متى يكون مهددا في هويته ومتى يجب أن تغلب الحكمة في تقدير الموقف والجسارة في التعامل مع الحقائق.

والحق أنَّ العقد الاجتماعي القائم بين سلطة تمارس مسؤولياتها فيما يخدم المصالح ويضمن الحدود ويحافظ على كبريائها الوطني وهيبتها الخارجية وبين كونها راعية لتطلعات الأفراد ومخاوفهم، حينما تكون المتغيرات وإفرازات  النظام العالمي تطرح أسئلة وجودية تدعوا للبحث عن هواجسها أكثر من الانشغال بإجاباتها وتتطلع منا للتعرف على تضاريسها قبل البحث عن الخروج منها بأقل الخسائر.

من هنا كانت الحاجة لمعرفة ما هو وطني بالضرورة وما هو قومي بالانتماء بل أن نطل ولو من بعيد على بعض الأثقال التي أتعبت كاهل الدولة الوطنية وهي تحاول شق طريقها النهضوي ما بين عين على الداخل ترى وتتفهم طموح شعوبها بمستقبل ينصف آمالها وعين على الخارج متمنية شراكة منه آمنة لا تجرها إلى انصياع قاس أو تردد غير محمود.

فأولى تحديات الهوية الثقافية هي العولمة سواء بجانبها الثقافي أو الاقتصادي.والحق أن العولمة ليست وليدة الحاضر بل كانت مرتبطة بظهور الدولة القومية وقامت بشكل أو بآخر على أنقاض نظام اجتماعي أقل ما يُقال عنه امتهان للعنصر البشري وهضم حقوقه، فالإقطاعية في بعض من صورها كانت تمارس دور السلطة المركزية وهي فكرة تماثل مسار العولمة التي قامت على الأممية وإضعاف كيان الدول من خلال استعمال السوق كأداة تفرض شروطا وتسن قوانينا، فهناك من يملك ولا يستطيع ومن يستطيع ولكنه لا يملك. والعولمة منظومة وكيان تحمل أبعادا اقتصادية وثقافية وسياسية تهدف إلى إظهار ما يسمى نمذجة المجتمع العالمي، نحو لغة واحدة وثقافة واحدة واختفاء للهويات القومية والموجهات الثقافية. فعلى وجه التقريب ظهرت العولمة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وأخذت عنفوانها من توسع إمبراطورية أمريكا بل لا نبالغ لو قلنا إنها مولود شرعي للرأسمالية الغربية وصورة جلية لما أفرزته الثورة الصناعية. والعولمة شملت عناصر أساسية من ازدياد العلاقات المتبادلة بين السلع والخدمات وانتقال رؤوس الأموال وانتشار المعلومات، كما جرى مع الشركات العابرة للقارات التي تحولت مع الوقت إلى كيانات بلا وطن وإمبراطوريات جاوزت التضاريس، تكره حضورها ولكنك عاجز عن مجاراتها. والحقيقة في ظل التسارع في الأفكار وإفرازات الثورات العلمية والطفرة التقنية والذكاء الاصطناعي ومابين أجندة تبحث لنفسها عن موطئ قدم ودول تتمسك بالبقاء مقابل التخلي عن سيادتها، من هنا لا مجال أن نصم آذاننا ونتعذر بالضجيج أو نغمض أعيننا ونحن نرى خارطة العالم تتبدل وتتغير معها أدوار ونصدق معها ما عجز العقل عن قبوله وما يحاول الواقع تمريره إلينا رغم رفضنا لإقراره.

فسابقاً كانت الجغرافيا دائما تبحث عن البقاء من خلال قوة عسكرية تمارس إرادتها على الأرض وتحقق ما عجزت السياسة عن الوصول إليه، فكما أن السياسة هي قوة ناعمة وفارقة في عالم الحرب والصراع كذلك المواجهة قرار نتخذه ونحن نعلم أنَّ كل الاحتمالات واردة إلا أن القبول بقسمة ظالمة قد يكون أشد وطأة من هزيمة بشرف.أما اليوم فصارت الأوطان تلتهم حزمة واحدة كالسيطرة على قرارها والاختراق من الداخل وتصبح المصالح ضرورة والبناء النهضوي حلم يصعب تحقيقه والبحث عنه جالب للمتاعب وطريق لا يُمكن التنبؤ بنهاياته.

والحق لا يمكن أن نبرئ العولمة من استهدافها للهويات الثقافية فهي لم تكن نبوءة روحية قامت على تعاليم دينية بقدر ما كانت منظومة هدفت إلى تجاوز ما هو وطني إلى الفضاء الكوني وفرض هيمنة اقتصادية بمضامين ثقافية عملت على تطويع الإعلام في الاختراق الثقافي، فظهرت مفاهيم كالبقاء للأصلح والاحتكام للمعايير المادية في الهيمنة والثروة وسياسة ملء البطون وإفراغ العقول بل كانت الدعوات مسموعة إلى درجة التحذير لإعادة النظر في مفهوم المرجعيات سواء الدينية منها أو الثقافية، فتحولت المجتمعات إما متغربة عن هوياتها إلى درجة الانسلاخ أو متصارعة إلى درجة العداوة، فالتأزم الفكري وتصارع الهويات الفئوية في إطار هوية جامعة كان أبرز إخفاقات الدولة الوطنية ذلك حين غاب مشروعها الوطني عن الواجهة تسللت الأهواء وسيناريوهات الآخر من الخلف.