الموارد البشرية وهويتها الوطنية (2- 2)

 

سعيد الشحري

أما المرحلة السادسة وهي من بعد الحرب العالمية الثانية وإلى الآن، فكانت النتائج على الأرض قد تجاوزت كثيرًا سقف الطموحات، فإذا كانت الحضارة الإنسانية سلسلة من المراحل والإنجازات جاز لنا أن نعتقد أيضاً أنَّ الأماني لن تقود إلا إلى عقول حالمة، وأن الأحداث الفارقة من عُمر التاريخ خلدتها عقول فكرت وآمنت أن العمل هو الشرعية الوحيدة لبناء أمجاد الأمم.

فالمرحلة عاشت عنفوان ثورتي المعلومات والاتصالات وألقت بظلالها على الإنسان، كما ازدادت حدة التنافسية التجارية والعولمة الاقتصادية، وتعقدت العلاقات الإنسانية وأضحت الحاجة لتوظيف نتائج علم النفس للمساهمة في رفع الكفاءة وتحديات الميدان. الحق أنَّ ما أسهبنا في ذكره من عملية التوطين والتي ظهر فيها المورد البشري كأبرز عوامل الإنتاج، يجعلنا نطرح سؤالاً: هل يكفي أن يكون لدينا كادرا بشريا مؤهلا ؟

في الحقيقة الأهمية لا تغني عن المسؤولية الاجتماعية وتكافؤ الفرص والشفافية والتعلم الذكي وصناعة جديدة للوعي تقوم على تقدير ما كان والشغف العلمي والممارسات الثقافية الفاعلة، فالتجليات النهضوية تنمو في أحضان:

  1. مجتمع واعٍ لما تحقق على الأرض ومحافظ عليه ويسعى ليكون جزءًا منه.
  2. تحول البناء الاجتماعي من التقليدية إلى الانسيابية من خلال توظيف أصحاب القدرات والمواهب في القطاعات الإنتاجية المختلفة.
  3. صحوة اجتماعية تنمو وتتقدم بتسارع نحو آمالها وخلف قياداتها المُلهمة، فالناس أحياناً يقيسون التحولات العظيمة بالعوائد السريعة ويغيب عنهم أنَّ النهضة هي انعكاس حقيقي لتطلعاتهم وبحثهم عن المكاسب.

فالمحك بين من يروضون أنفسهم للأمر الواقع وبين من يريدون تطويع الأمر الواقع لأهدافهم.

لقد بلغ التنافس البشري حدوداً غابت القيم الإنسانية عن كثير منها كما أنَّ قاعدة الإنجازات التي تحققت من تعاظم للثروات ووسائل الاتصال وأسباب الرفاهية قلل من أهمية نظرية الموارد البشرية المبنية على الهوية، فهويات الأوطان إما أنها إمبريالية تقودها أطماعها إلى مالا تملك، أو دفاعية تتحصن بالمقاومة والدفاع أو كيانات تحمل هويات ذات مرجعيات تاريخية ووراثية وسياسية، كما حدث مع نهضة اليابان والصين. فهي أمم لم تنهض من فراغ بل أطلت بحاضرها على ماضيها ومن الماضي بتجاربه وخبراته حافزاً نحو المستقبل.

فنهضة اليابان جمعت بين استلهام بقايا إمبراطورية وبين وطن عاد إلى الحياة من بين أنقاض حرب وشتات فكر، فظلت ذاكرته الحضارية مُتوجسة من كل تهديد وتدخل خارجي، كما أنها وجدت نفسها أمام ظروف طبيعية لا سلطان لها عليه فالزلازل والبراكين والأعاصير القاتلة كلها حتميات وجب الاستعداد لها وتحمل ما تخلفه وراءها من عواقب، كل ذلك وغيره طبع الهوية اليابانية والعنصر البشري بسمات قلَّ ما تجدها في سواه، فالمُثابرة والانضباط والإبداع واحترام الوقت والصدق بل والإدارة التي تُقدس روح الفريق وتتميز في إطار المجموعة كانت ضمن أسرار تلك القوة الاقتصادية العملاقة، فالعنصر البشري يحتاج لمرجعيات وهويات تمنحه عزيمة للبقاء وشرعية للمحاولة وأهلية للتضحية في أوقات النضال. كذلك تجربة الحضارة الأمريكية والتي اختزلت فيها حركة الجغرافيا وحدود لا تكاد أن تنتهي وأرض للهجرات وتوطين للعقول ورؤوس أموال مُهاجرة فأمريكا للجميع في إطار التنوع والولاء للوطن.

وفي العودة للتجربة العُمانية والكوادر البشرية القائمة على الهوية فأنت أمام فضائل صبغت الشخصية العمانية بالهدوء والحكمة وحب العمل والبحث عن المعرفة وبين ميراث إمبراطورية بلغت من القوة كل مبلغ وأثبتت لنا تأصل العزيمة في شخصيته ومجابهة الأخطار بل ظلت روح القيادة في الشخصية العُمانية طبعًا دون تكلف أو مساومة.

فإذا أردت لشعب أن يتصدر الصفوف الأمامية دعه يعرف ماضيه ثمَّ مكنه أن يعيش أحلاماً عظيمة يقاتل من أجلها وهيئ ملامحا له يهتدي بها على الطريق ولا تنس أن يقود علماؤه مؤسساته فإذا عبرت للبر الآخر فاكتب أن المستحيل ليس مضللاً لمسارات الشعوب ولكنه يبقى الطريق الأمثل للذين ضيعوا أهدافهم فتعثرت خطواتهم فاقتادتهم إلى المجهول.