محمد بن علي البادي (أبو خالد)
منذ سنة وعشرة أشهر تقريبًا، وغزة لا تزال تحترق. لا شيء تغيّر سوى عدد الشهداء، وعمق الجراح، واتساع الصمت من حولها. هناك، في تلك البقعة الصغيرة المحاصرة، تبكي الأمهات بصمت، ويصرخ الآباء بحناجر لا تجد من يسمعها، ويئنّ الأطفال تحت الركام، بعضهم ينتحب من الألم، وبعضهم ينام إلى الأبد.
ورغم الصمت العالمي المخيّم، برزت مواقف مشرفة لبعض الحكومات، إلى جانب جهود حثيثة تبذلها شعوب عربية وعالمية في جمع التبرعات، إلا أن الحصار الظالم لا يزال يحول دون وصول معظمها إلى غزة.
أما الشعوب، فقد عبّرت عن ضميرها الحيّ بمواقف شجاعة؛ خرجت في المظاهرات، ورفعت الصوت عاليًا نصرة لغزة، رغم القمع والتعتيم والتضييق".
ولم يغب الكُتّاب والأحرار، فصدحت أقلامهم بما استطاعوا، مدعومين بزخم شعبي حقيقي، لكنّهم يواجهون آلة إعلامية غربية ضخمة، تقف بكل إمكانياتها إلى جانب الاحتلال، وتعمل على تزييف الحقائق وتلميع صورته، في محاولة لعزل الشعوب عن الحقيقة.
توقّفت المساعدات... لا ماء، لا طعام، لا دواء. الأحياء هناك يبحثون عن قطرة ماء، عن لقمة، وعن دواء يُبقيهم على قيد الحياة.
والموتى بين الأنقاض، جثث هامدة، في انتظار من يستخرجها ويواريها التراب. لا سيارات إسعاف، لا أكفان، ولا قبور تكفي لمواراتهم.
هذا ليس مشهدًا من زمنٍ بعيد، بل من غزة، حيث الموت لا يأخذ استراحة، وحيث الوداع يُكتب بلا صوت كلّ يوم.
"غزة تُذبح على مرأى العالم، فلا مسجدٌ سَلِم، ولا مستشفى نجا، ولا مدرسة بقيت، وكأن الحياة كلها تُمحى من تلك البقعة الصامدة".
ومن المشاهد التي تقف عندها القلوب إجلالًا، ما يفعله الأطباء والمسعفون في غزة، أولئك الذين يقفون في قلب الجحيم كحُرّاس للإنسانية.
لا يملكون دروعًا تحميهم، ولا وقتًا للراحة، ولا حتى أماكن آمنة يلجؤون إليها، ومع ذلك، يلبّون نداءات الاستغاثة بلا تردّد، يركضون بين الركام، وينقذون ما بقي من الأرواح، بأدوات بسيطة وقلوب عظيمة.
هم الجنود المجهولون الذين يزرعون الأمل في زمن الموت، ويخيطون الجراح بأصابع ارتجفت من التعب لا من الخوف.
ومع نبل رسالتهم، لم يسلموا من جبروت آلة القتل، فقد استُهدف بعضهم عمدًا، واستُشهد بعضهم وهم يؤدون واجبهم الإنساني النبيل.
أيُّ بطشٍ هذا الذي لا يُفرّق بين من يحمل سلاحًا ومن يحمل ضمادًا؟
أيُّ قلبٍ هذا الذي يُطلق النار على من يُنقذ الحياة؟!
بعض العرب ينادون بخجل، وكأن ما يحدث لا يعنيهم، وكأن غزة خارج حدود قلوبهم. أما المسؤولون، فقلوبهم غُلْف، وجفونهم لا ترف. الحصار باقٍ، والقتل لا يتوقف، والجوع ينهش أجساد الصغار، ونحن... نعيش حياتنا كأن شيئًا لا يحدث. نتابع، نمرّر الصور المؤلمة، ثم نعود إلى انشغالاتنا الصاخبة.
تخرج بين الفينة والأخرى تصريحات خجولة من بعض الرسميين العرب، تهمس: "نطالب بوقف العدوان".
لكن لا موقف يُتّخذ، لا ضغط يُمارَس، لا فعل يُرجى.
أما جامعة الدول العربية، فقد صارت كيانًا من الماضي، كأنها ماتت بصمت، لا تُحرّك ساكنًا، ولا تتبنى حتى مواقف الدول القليلة التي ما زالت تنادي بوقف هذه الإبادة وهذه المجازر.
أتساءل: هل نحن نفس العرب الذين كانت ترتجف الأرض لأجلهم حين يغضبون؟
أم أننا اليوم تحت تأثير سحرٍ أسود، شلّ فينا الشعور، وأدخلنا في صمت الموتى؟
أين العروبة؟ أين الدم؟ أين النخوة؟
يبدو أننا ميتون من الداخل، بلا قلوب تحس، بلا عقول تفكّر، بلا أعين تبصر، أو آذان تسمع.
أما أهل غزة، أولئك المرابطون، فهم يدافعون عمّا تبقى من العرب، وهم على خط النار.
والشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون. نراهم جثثًا في الأخبار، وذووهم يرددون: "الحمد لله" بكل صدق ويقين.
وهم في الحقيقة... أرواح في الجنة. إنهم الشهداء حقًا، المنتصرون في الآخرة، وإن خذلهم كل من على الأرض.
ما نسمعه في الإعلام من خطب وتصريحات، ما هو إلا استعراض لفظي، وزخرفة كلامية، لا تمسّ القلب، ولا تهزّ الضمير. كلمات منمّقة تُقال لتبدو الصورة أمام الغرب "متحضّرة"، لكن لا عدالة فيها ولا وقفة حقيقية.
أنا كإنسان، وعربي، ومسلم، لا يهمني خطابك الجميل، ولا بلاغتك المفرطة.
ما يهمني أن أراك صادقًا في موقفك، أن تبذل جهدًا حقيقيًا لوقف القتل، أن تسعى لإدخال الماء والدواء، أن تصرخ من أجل وحدة العرب، أن تكون في صفّ الحق، لا في صفّ المجاملات.
ما أريده... أن أشعر بكم، أن أسمع صوتكم، أن أرى فعلًا حقيقيًا.
لا أريد أن يصلنا الدور، ثم نستيقظ بعد فوات الأوان.