الموارد البشرية وهويتها الوطنية (1- 2)

سعيد أسلم الشحري

قبل الحديث عن الموارد البشرية كرافدٍ مُهمٍ وعنصر فارق من عناصر الإنتاج إلى جانب الموارد الطبيعية والتنظيم يتحتم علينا أن نطل ولو من بعيد على آفاق النهضة لنوقن أنها إن شئت تسير بجناحين وهما التمكين الذي يهيئ لها الديمومة والاستقرار والتوطين الذي يجعل من الوجود مؤثرًا كتوطين مواردها البشرية كجزء من هويتها ونافذة أخرى تطل بها على المُستقبل.

فالحق لكي تقوم نهضة وتمضي مُطمئنة غير آبهة ببعض التعرجات على الطريق، كان عليها أيضاً تعلم أنَّ التمكين مثلما هو استخلاف للإنسان على الأرض بإرادة من الله عزَّ وجلَّ ليحقق غاياته فهو أيضًا يفتح باباً تتسع فيه سماء الطموحات وتلوح معه المخاوف مُعلنة عن صراع تمتد فيه يد الطامعين وتستبيح ماعجزت الأوطان عن حمايته.

والتمكين محل حديثنا هو عن الوجود السياسي وصيانة الأمن القومي ترسيخاً للاستقرار وبحثاً عن الموارد، فلا نهضة مع أمن قومي مُهدد واضطراب داخلي وتطلعات لا تسمع وهواجس تستبد بالشعور ولا تُقال، فالتاريخ ليس أحداثاً جرت وغابت عن الأنظار فحسب بل هو حي في الحاضر ومُؤثر في المُستقبل ويستوجب منِّا أن نقرأه قبل أن نُفكر في كتابته وننشط ذاكرته قبل أن نصدر الأحكام. فخذ اليابان كنموذج حمل معنى الدولة الوطنية بخصائصها ومقوماتها حيناً والحضارية بتفاعلاتها وروحها الممتدة والإمبراطورية في تمددها وسعيها للتأثير في أوقات أخرى. هذا الكيان وجد نفسه يُصارع مصيره بقليل من الأمل وكثير من إرادة الرجال، بعد هزيمته في الحرب العالمية الثانية حيث أصبح مدمرا نفسياً ومادياً جراء القنابل النووية التي عصفت بمدنها مخلفة ضحايا بشرية وخسائر مادية استبدت بالمال والبناء. لقد صار عامل التمكين وأمنها القومي مخترقاً وحقائقه مكشوفة لا تحتاج إلى تفسير. كل ذلك وأكثر منه دون مُبالغة أو تزييف، لكن ما لبثت اليابان أن استعادت وعيها بعد صدمة أقل ما يُقال عنها أنَّها قاتلة. لكن عامل التوطين ممثلا بموارده البشرية كان الرهان عليه أبلغ وأصدق إن شئت الحديث عن ثروات البلدان التي لا تنضب بتقادم الزمن ولا تتغير مهما تنازعتها تقلبات الأيام. فالموارد البشرية كمصطلح يعنى بكل ما يتعلَّق بالتخطيط والتعليم والتدريب والمُتابعة للأفراد من جهة معينة فردية أو مؤسسة من أجل الوصول لمستوى إنجاز يُلبي هدفها ويرضي غرورها، وهي في ذلك قامت على أكتافها مكتسبات حضارية قديمة وبفكرها وعزيمتها حقق الملوك أحلامهم، ولولا أنَّها شاهدة لبلغ بنا العجز والإنكار عن تصديقها، فالحضارة الفرعونية والبابلية والسومرية لم يكتب لها البقاء إلا من خلال عقول فكَّرت وخططت وأخرى حولت ما كان إلى واقع.

والحق إن الموارد البشرية ظهرت في عشرينات القرن الماضي وقد مرَّت مراحل وتعاقبت عليها فترات تسمو بها وقتاً وتشقى معها مرات، فارتبطت المرحلة الأولى بظهور الثورة الصناعية والتي شهدت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ميلاد الثورة الصناعية باختراع الآلة البخارية، عقب سنوات من البحوث والتجارب العلمية وذلك في إنجلترا، ثم ما لبثت أوروبا الغربية فساهمت في العملية الصناعية، فظهرت مصانع الغزل والنسيج ومصانع لصهر الحديد، فغدا العالم أكثر احتياجاً لقوى بشرية فاعلة كما أصبحت القوى البشرية أقل شعورا بالرضا من جهات اعتبرتها سلعة تخضع لمنطق السوق وآلة قد تحل مكانها بقليل من الجهد وقدرة على الإتقان.

في المرحلة الثانية من تطور الموارد البشرية كان الاتجاه نحو مُواصلة مسيرة العمل ومُمارسة كل جهد في إدارة مشكلاته، فظهرت الإدارة العلمية والتي قام على عاتقها دور للارتقاء بالمورد البشري وبناء معالمه. أما في المرحلة الثالثة فلاشك أنَّ الإدارة العلمية ساهمت في ظهور الأشكال النقابية والتي أخذت على نفسها مهمة للدفاع عن حقوق العامل كالمطالبة بزيادة الأجر وتقليل ساعات العمل، فكلما ازداد الوعي، ازدادت المسؤولية بل ودعت الحاجة لسن قوانين وتشريعات حتى لا تضيع الحقوق في خضم الواجبات. فعندما كان العالم يتلمس خطواته الأولى نحو التنمية وتحسين أدوات العمل وعوامل الإنتاج كان جموح التطلعات الزائدة يقوده أحياناً إلى مناطق تكثر فيها الأخطاء ثم يتحول الخطأ إلى تجربة والتجارب إلى رصيد من الخبرة والمعلومات، فدواعي التردد هي نفسها دواعي المجازفة في التجارب الإنسانية. في المرحلة الرابعة ربما تجلت فيها الطلائع الأولى للمفهوم الحديث للموارد البشرية خلال الحرب العالمية الأولى فما بين التدريب والرعاية والتوظيف، ربما مهدت في ذلك للمرحلة الخامسة أن يصبح صوت العامل مسموعاً يختار ما شاء في حدود طاقته وقدرته، فقد تنوعت الأعمال واختلفت أشكال العلاقات الإنسانية.