الدول الخليجية وإسرائيل.. قواعد جديدة للاشتباك

 

عبدالنبي الشعلة **

استلمت الكثير من الرسائل والاتصالات من عدد من الأصدقاء والقُراء والمُتابعين بعد أن نشرت مقالي الأسبوع الماضي بعنوان "الإمارات وإسرائيل.. الفلسطينيون ومشاريع الحل السلمي والتطبيع"، أكثرها كانت تشيد وتتفق مع الآراء التي طرحتها، وبعضها كانت تتضمن آراء ووجهات نظر مُخالفة.

ومن منطلق التقدير والاحترام والاهتمام بالرأي المُختلف، وعلى قاعدة "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" التي أرساها الإمام الشافعي، رأيت أن أخاطب المُختلفين معي في هذه الوقفة بالإجابة والتعليق باختصار شديد، لضيق المساحة، على بعض التساؤلات والملاحظات التي أبدوها.

أعزائي؛ بعد أن اتضحت لكم المواقف الثابتة التي أعلنتها وأكدت عليها مُؤخرًا كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، وتمسكهما بحل الدولتين على أساس المُبادرة العربية، وعلى أساس دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، هل اقتنعتم الآن بأنَّكم تسرعتم، كالعادة، في توجيه اتهامات الخيانة والغدر، والطعن في ظهر القضية الفلسطينية وبيعها، وأنه لم تكن ثمَّة مؤامرة، كما ذكرتم، بين عدد من دول مجلس التعاون بحيث تطرح الإمارات مُبادرتها أولاً ثم تتبعها بعد أيام المملكة العربية السعودية والبحرين وعُمان بما يُؤدي إلى انفراط عقد الدعم الخليجي للقضية الفلسطينية.

إنكم لم تكونوا صائبين وموفقين أيضًا عندما ذكرتم أنَّ الهدف الرئيسي لمبادرة سُّمو الشيخ محمد بن زايد هو دعم الموقف الانتخابي للرئيس ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية في شهر نوفمبر المُقبل؛ فالناخب الأمريكي لا فرق عنده سواء اعترف كل العرب بإسرائيل أم لم يعترفوا، ولا يهتم ولا يكترث كثيرًا بالسياسة الخارجية لحكومته إلا في حالة وقوع حرب وسقوط قتلى أمريكان خارج الحدود الأمريكية، الناخب الأمريكي تهمه في الأساس الأمور والمشاغل والشؤون والشجون الداخلية مثل قضايا النمو الاقتصادي وتوفر فرص العمل والضرائب والأسعار وقضايا الإجهاض وحقوق المثليين وما شابه، إذًا السياسة الخارجية للرئيس ترامب ودعمه إسرائيل لن يكون لها دور مؤثر للغاية في إعادة انتخابه، والدليل أنَّ الرئيس جيمي كارتر هُزم بفارق شاسع أمام المرشح الجمهوري رونالد ريغن في انتخابات 1981 رغم أنَّه كان المهندس والمشرف على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن في عام 1978، والتي تعد أكبر إنجاز سياسي ودبلوماسي حققته إسرائيل بفضل مساندة وجهود كارتر، إضافة إلى أنَّ اليهود في أمريكا، لهم دون شك نفوذ قوي، لكنهم لا يشكلون أكثر من 2% من الناخبين وأغلبهم مناصرون للحزب الديمقراطي المُنافس لترامب.

وليس صحيحًا ما ذكرتم بأنَّ الإمارات تسعى لتحقيق منافع ومكاسب اقتصادية على حساب القضية الفلسطينية، فالإمارات ودول مجلس التعاون الأخرى دول غنية، لديها فوائض مالية ولا تحتاج إلى منافع اقتصادية أو مُساعدات من إسرائيل أو غيرها، وهي على كل حال تدرك أنَّ إسرائيل ليست قادرة أو معروفة بعطائها وسخائها؛ فهي تأخذ ولا تُعطي، والسوق الإسرائيلي ليس جاذبا أو مغرياً، وهو صغير في حجمه، فعدد سكان إسرائيل كلها يبلغ 9 ملايين نسمة؛ أقل من عدد سكان الصومال، وأقل من نصف عدد سكان مدينة مومباي الهندية أو كراتشي الباكستانية، وأقل من سكان القاهرة، والشعب الإسرائيلي منتج يتجه إلى التصدير وليس الاستيراد، والسائح الإسرائيلي مُقَتّر للغاية في إنفاقه، كما أنَّ تجربة مصر والأردن في مجال التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والسياحي مع إسرائيل ليست مشجعة.

وأرجو منكم التأكد مما ذكرتموه من أن "الشعب الخليجي برمته يقف بقوة ضد التطبيع"، إنَّ هذا الشعب كان ولا يزال وسيظل متوجعاً لآلام ومُعاناة أشقائه الفلسطينيين، ومتعاطفا مع قضيتهم العادلة، إلا أنَّ الغالبية العظمى منه لم تعد مُتعلقة بها كما كانت من قبل.

إنَّ المشهد الحقيقي للرأي العام الخليجي بالنسبة للقضية الفلسطينية اليوم هو كالتالي: أكثر من 90% من مواطني دول المجلس ولدوا بعد "نكبة 48"، والفئة العمرية من 14 سنة فأقل تشكل نسبة عالية جدًا مُقارنة بالمجتمعات الأخرى، إذ تبلغ 34% من المواطنين وهم لا يفقهون بحكم سنهم لهذه القضية أو غيرها، ونسبة عالية أيضًا من المُواطنين الخليجيين تبلغ حوالي 30% من فئة الشباب من 15 حتى 29 سنة لا يهتمون ولا يريدون أن يعرفوا شيئاً عنها وليس لهم أي ارتباط عاطفي بها، أو الغالبية العظمى من هذه الفئة على أقل تقدير.

فمن بقي؟ بقيت الفئة العُمرية التي أنا وأنتم ننتمي إليها، أو جيل النكبة الذي رضع القناعة والإيمان بعدالة القضية الفلسطينية منذ طفولته ونعومة أظافره، فلكَم هزتنا نداءات عبدالناصر، ولكم شدتنا هتافات أحمد سعيد (غالبية الخليجيين الآن لم يسمعوا باسمه) ولكم شاركنا في مُظاهرات ورفعنا أصواتنا مطالبين بعودة كامل الأراضي الفلسطينية، وطرد الصهاينة منها وإلقائهم في البحر.

وظلت العاطفة والأحلام تقودنا وتتقاذفنا وتجرفنا إلى أن استيقظنا وأفقنا، أو استيقظ وأفاق الكثير منِّا على أقل تقدير أيضًا، عندما رأينا بأم أعيننا، وكبرياؤنا يتحطم والآلام تعصرنا، كيف كانت جيوشنا العربية تمنى بالهزائم المُنكرة المرة تلو الأخرى على أيدي الإسرائيليين، ووجدنا في النهاية أنَّ القضية العادلة أصبحت شماعة أو بضاعة يتاجر بها المزايدون وسماسرة الشعارات، وباسمها وعلى حساب مصلحة أهلها تقع الانقلابات وترتكب أعمال التطرف والعنف والإرهاب، وتنتهك الحرمات والحقوق والحريات، وحوّلها البعض إلى أداة للابتزاز، بما في ذلك ابتزاز دول الخليج، ورأينا قادة الفلسطينيين وهم يختلفون وينقسمون ويتناحرون حولها، وينغمسون في أوحال الفساد، فأضعفوا من قوة وقداسة وصلابة قضيتهم، ثم إنِّهم هدموا حاجز القطيعة وجدار المقاطعة عندما اعترفوا بإسرائيل ووقعوا اتفاقيات الصلح والسلام معها في الوقت الذي كانوا فيه ومازالوا يخطئون ويخونون من يعمل ذات الشيء، فهل مازلتم أعزائي تسألون عن سبب صمت وسكوت الشعوب الخليجية على قرار الإمارات بتطبيع علاقاتها بإسرائيل؟ مع أنكم لا شك سمعتم بالمثل القائل: "السكوت من الرضا.. وعدم الاعتراض يعد قبولاً"، ومع أنكم تعرفون أيضًا أنَّ هناك شريحة واسعة في المُجتمع الخليجي لها صوت مسموع، نعتز ونفخر بها، لا تزال مصرة على التشبث بالأمل والتمسك بقناعاتها بعودة فلسطين من البحر إلى النهر.

لكنني لا أظن أنكم مخطئون عندما اتهمتم الدول الخليجية وقلتم إنَّ القضية الفلسطينية لم تعد على قمة أولوياتها، وإن قال لكم أحد خلاف ذلك فهو مُجامل يُحاول أن يخفي الحقيقة عنكم، فقد تغير بالفعل موقع القضية الفلسطينية على سلم الأولويات بالنسبة لهذه الدول بعد أن تغيرت خارطة الأشقاء الأعداء والأصدقاء والحلفاء في المنطقة منذ غزو الشقيق العراقي للكويت ووقوف بعض الأنظمة والمنظمات العربية معه، وصولًا إلى تمدد وزحف دول نشاركها المُعتقد والجوار والتاريخ بأطماعها التوسعية إلى أحضاننا، فرأت الدول الخليجية أنَّ إسرائيل ليست الدولة التي تسيطر على أربع عواصم عربية، وليست الدولة التي لها جنود وميليشيات يحاربون في ليبيا والعراق وسوريا، وليس لإسرائيل قواعد في أي من الدول العربية، كل هذه التطورات أخلت بموازين العلاقات ومواقع الأولويات.

لكن كل ذلك لا يعني أنَّ دول الخليج ستتخلى عن مبادئها، وتتنكر لعدالة قضية الأشقاء الفلسطينيين وتتنصل عن مسؤولياتها تجاههم؛ فالسلام والحوار مع إسرائيل لا يسقطان الحقوق؛ إنَّ الأمر لا يعدو كونه مجرد استنهاض لقواعد جديدة للاشتباك تتطلب العمل بالمكشوف وتحت ضوء الواقع بدلاً من تحت الطاولة وفي الظلام.

** وزير العمل والشؤون الاجتماعية بالبحرين سابقًا