اتركني... أتركك: مفاوضاتنا الحقوقية

 

غسان الشهابي **

** كاتب بحريني

يعمل الإعلام عمله على امتداد العالم، حتى أخذت حادثة مقتل الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد كل هذا المدى العالمي، وردود الفعل التي كانت في مُجملها متساوقة مع ما يحدث في الشوارع الأمريكية من مسيرات ومظاهرات واحتجاجات، وهذا يُشير مجدداً إلى مكانة الإعلام الأمريكي وهيمنته الكبيرة على الفضاء الإعلامي العالمي، حتى أن الكثير من العرب أخرجوا من أراشيفهم صوراً مشابهة لأوضاع مشابهة حدثت في فلسطين المُحتلة في محاولة للفت النظر العربي والعالمي إلى أنَّ هذه الممارسة شبه يومية ومتكررة، ولكن الموضوع أوسع من هذه المقارنة.

كثير من المُتفاعلين العرب تركوا ما يحدث وراحوا يطالبون الولايات المتحدة ألا تفتح فمها للحديث عن حقوق الإنسان في العالم الثالث، لأنَّ ملفها قذر بمقدار قذارة الدول التي تنتقدها. وراحوا أيضاً يعيدون نشر فيديوهات صُورت في الشوارع الأمريكية وعلى مسافة الصفر أحياناً من القوات الأمنية لتوثق عنف بعض رجال الأمن، وهم يقولون: "أنظر ماذا يفعلون؟ يدفعون عجوزاً ليسقط على الأرض... يضربون النساء... يستخدمون الخيول...يا إلهي إنهم يطلقون الغازات المسيلة للدموع... اللعنة، يحاولون فصل الأم عن طفلها ليودعوها الإيقاف..."، ومن هذه التعليقات الكثير والكثير جداً، وهذا في حد ذاته أمر جيد لأننا نثبت أننا جزء من العالم بينما أجزاء من العالم ما عادت قادرة على أن تصنفنا إن كنَّا لا نزال في هذا الكوكب أم نعيش على أطرافه، كما أن التفاعل مع القضايا ذات الامتداد العالمي شيء جيد ومطلوب.

الأهم من ذلك – في رأيي – ألا يتم فصل القضايا عن بعضها، لأنَّ الإنسان هو الإنسان في أي مكان في العالم، وأن الظلم لا يُمكن فضحه هنا، وتقليده بالورود والأنواط والنياشين هناك، وأنَّ القوة المفرطة التي تستخدم ضدي هي عينها القوة المفرطة التي تستخدم مع من هم ضدي، فلا يُمكن تبريرها هنا وشيطنتها هناك، وليس العكس أيضاً، فكما قالت معظم الأنظمة العربية على مدى العقود السالفة لو ظهرت حركة احتجاجية بأنها مدفوعة من الخارج، هكذا قال الرئيس الأمريكي ترامب، وكما قال فرعون لأتباعه عن أصحاب موسى {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] في محاولة لتقليل شأنهم وتأثيرهم، وهي الحجة التي ما فتئت تستخدم لولا فضح التكنولوجيا لهذه الحجج. فمتى ما كان المبدأ متيناً ومنطلقاً من الإنسان ومن أجل الإنسان لن يضيره في أي أرض يطبق.

والمسألة الثانية، هي تبجح البعض بعدم حق الدول الغربية، سواء في مسألة كورونا، أو في مسألة فلويد، الحديث عن القيم الإنسانية في الشرق الأوسط. إنهم كمن يقول: واروا سوءاتكم، واستروا عوراتكم قبل أن تتحدثوا عن الآخرين. إنِّها دعوة مستترة للقول: دعونا "نفرم" معارضينا بصمت ومن دون إزعاج.

الأولى أن الدول الغربية كما تحاصر – من خلال خارجياتها – دول الشرق الأوسط بالانتهاكات، أن تحاصَر(بفتح الصاد) هي في المقابل، من المنطقي أن تتبادل الدول استعراض ملفات حقوق الإنسان بغية تحسين الأوضاع، بدلاً من أن لعبة "ارفع يدك عني... لأرفع يدي عنك".

المسألة تأتي في عمق حقوق الإنسان التي لا يشعر بها في الغالب إلا من ذاق ويلاتها، ومن أرهفته التجارب أتى العالم بقلب سليم، وما عدا ذلك فالحديث مع تقليديي الشرق الأوسط يحتاج إلى نفس طويل.