التكييف القانوني لـ"كورونا" وأثره على القوة الملزمة للعقود

أحمد بن سليمان العبري

 

الأصل في العقود أنَّها تُرتِّب التزامات مُتبادلة بين طرفي العلاقة التعاقدية، إلا أنَّ هناك حالات وظروفًا يستحيل معها لأحد الطرفين تنفيذ التزامه التعاقدي؛ بأنْ يُصبِح تنفيذ الالتزام مستحيلاً كليًّا أو جزئيًّا، أو أن يصبح تنفيذه لهذا الالتزام مُرهِقاً له، ومن ذلك ما نَتَج عن الإجراءات الاحترازية التي اتَّخذتها الحكومة للحد من انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19)؛ فقد تأثرت الالتزامات التعاقدية بين أطرافها، ونشط البحث القانوني للإجابة حول إذا ما كان هذا الوباء من قبيل القوة القاهرة أم ظرف طارئ، وأهمية الإجابة عن هذا التساؤل تعود لاختلاف الأثر المترتب علىى كل مُنهما؛ لذلك سوف نفرِّق بينهما ونوضح معيارَ تحديد التكييف الأنسب لهذا الوباء.

القوة القاهرة هي التي تؤدي إلى أن يصبح تنفيذ أحد طرفي العلاقة التعاقدية لالتزامه مُستحيلاً استحالة كلية أو جزئية، ويجب أن تكون بلغتْ من الشدة ما يجعل من غير الممكن توقعه ومن المستحيل دفعه.

وقد عرف العلامة عبدالرزاق السنهوري القوَّة القاهرة بأنها حادث غير ممكن التوقع؛ فإذا أمكن توقع الحادث حتى لو استحال دفعه، لم يكن قوة قاهرة، ويجب أن يكون حادثًا غير مُستطاع التوقع لا من جانب المدعى عليه فحسب، بل من جانب أشد الناس يقظة وبصراً بالأمور؛ فالمعيار هنا موضوعي لا ذاتي، بل هو معيار لا يكتفي فيه بالشخص العادي، ويُتطلب أن يكون عدم الإمكان مطلقاً لا تسبيباً. وعدم إمكان التوقع في المسؤولية العقدية يكون وقت إبرام العقد؛ فمتى كان الحادث غير مُمكن التوقع وقت التعاقد، كان هذا كافيًا حتى لو أمكن توقعه بعد التعاقد وقبل التنفيذ. أما في المسؤولية التقصيرية، فيكون عدم إمكان التوقع وقت وقوع الحادث ذاته.

وقضتْ محكمة النقض المصرية بأنَّ القوة القاهرة هي التي "ينفسخ بها العقد -وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة- هي التي تجعل تنفيذ العقد مستحيلاً استحالة مطلقة لسبب أجنبي عن المدين؛ مما مؤداه أنه إذا كانت القوى القاهرة تمثل مانعاً مؤقتاً من التنفيذ؛ فلا يكون لها أثر سوى وقف تنفيذ الالتزام في الفترة التي قام فيها الحادث حتى إذا ما زال هذا الحادث عاد للالتزام قوته في التنفيذ".

هذا.. وقد تناول المشرِّع العُماني في المادة (172) من قانون المعاملات المدنية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 29/2013 موضوع القوة القاهرة؛ حيث قضت في حالة طَرَأت قوة قاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً في العقود الملزمة للجانبين انقضى معه الالتزام المقابل له، وانفسخ العقد من تلقاء نفسه، أما إذا كانت الاستحالة جزئية انقضى ما يقابل الجزء الذي استحال تنفيذه، وينطبق هذا الحكم على الاستحالة الوقتية في العقود المستمرة، وفي هاتين الحالتين يجوز للدائن فسخ العقد بشرط إعذار المدين؛ فإذا فسخ العقد أو انفسخ أعُيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد مع أداء الحقوق المترتبة على ذلك، فإذا استحال ذلك يحكم بالتعويض.

أما بالنسبة لنظرية الظروف الطارئة، فهي أن تطرأ حوادث استثنئاية عامة تؤدي أن يصبح تنفيذ أحد طرفي العلاقة التعاقدية "المدين" لالتزامه مرهقاً ويسبب له خسارة فادحة.

وإرساء لمبدأ العدل فقد تدخل المشرع لتنظيم الظروف الطارئة بنص المادة (159) من قانون المعاملات المدنية"، إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وقت التعاقد، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يُصبح مستحيلاً، صار مُرهقًا للمدين بحيث يهدد بخسارة فادحة، جاز للمحكمة تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تردَّ الالتزام المرهق إلى الحدِّ المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك"؛ فإذا جعل الظرف الطارئ من الالتزام مرهقاً -وهو ما يهدد بخسارة فادحة لأحد الطرفين- فيجوز للمحكمة -بناء على طلب الخصوم- أن تقوم بالموازنة بين المصلحتين، على اعتبار أنها ظروف لم يتسبَّب طرفا العقد في فوات المنفعة المعقود عليها.

والواقع أنَّه لا يُمكن تكييف جائحة كورونا بوصف محدد ثابت كأن تكون قوة قاهرة، أو ظرفا طارئا، بل يجب أن يتم دراسة كل حالة وفق مدى تأثرها بهذه الجائحة؛ فآثار الجائحة لم تمتد إلى جميع القطاعات بذات قوة التأثير؛ فهناك عُقود لم تتأثر نهائيًّا بالجهود والإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة لمواجهة الفيروس والحد من انتشاره، وهناك نوع آخر تأثر لدرجة أنَّ تنفيذ الالتزام أصبح مُستحيلاً، وهنا تطبق نظرية القوة القاهرة، وهناك نوع ثالث لم يُصبح فيها تنفيذ الالتزام مستحيلاً لكنه أصبح مرهقاً وهنا تطبق نظرية الظروف الطارئة.

والتكييف القانوني للحادث أنه قوة قاهرة أو ظروف طارئة هو من سلطات وصلاحيات محكمة الموضوع التقديرية؛ شرط أن يكون استخلاصها بناء على أسباب سائغة وكافية لحملها على هذا الوصف.

* قانوني وباحث ماجستير