في العزلة مأوى وحياة

 

د. عزيزة الطائية

هدوء مُثير للريبة قبل شروق الشّمس في الصّباح من شرفة تنتظر البهجة والفرحة على ياسمينة الروح بتحقيق حلم طال انتظاره، عند الزوال بإبادة الوباء لعودة الحياة.

لا شمس تحت الشّمس، إلّا نور القلب النّابض عندما يخترق الظّلال! إنّها راية عُمان، ترفرف خفاقة بشموخ وكبرياء.. رفعتُ نظري قليلا، تأملتُ الرّايات عرضها وطولها حتى صار الظّل يشاكسني إلّا من ألقها تتزين بها المباني والطّرقات.  

نظرتُ من نافذتي لفسحة الحياة، لعل ذاتي تشعر بالانعتاق من عزلة هي أقرب إلى العقاب للنجاة من الابتلاء، أقرب إلى الإقامة الجبرية لمحاربة الفيروس COVID19.. رأيتُ الفضاء فسيحًا ساكنًا، رطبًا مبللًا، حزينًا دامعًا خاليًا من روح الحياة؛ انتابني إحساس كأنني أتطلع إلى أرض تيماء يضل فيها عابرها، أو يهلك دون أخلاء.

الشّمس أشعتها تتمدد لا يحجب نورها سوى غبار خفيف يتوشح بلجام الفضاء، وعلى الجانب الآخر غيوم يكسو عناقيدها السّواد. كلّ شيء ساكن، هادئ، جامد من بهجة الحياة، وكأنه يرتجي شيئًا ما عند معانقة هام السّماء. المساحات خالية إلّا من خطوط العبور وتقاطعاتها، الأرصفة باكية من مسامرة الأحباب، الحدائق تدمع أزهارها من مفارقة الأخلاء، العصافير تغرد برجاء الدعاء للأصدقاء، الحمامات تهدل بخشوع الصلاة للأقران.. كلّ تفاصيل الحياة بأشيائها حولي متوقفة صامتة وكأنها تقاد إلى سجن مؤبد، أو مقبرة الموت.. بدا أمامي كلّ شيء غارق في حنينه لروح الحياة. انتابني فزع داخلي، ليس بالفزع الذي يصيب نوبات العلاج، ولا ذاك الذي يؤرق النائم، وإنما هو هلع أقرب إلى توقف الحياة عند منعطفات الهلاك أو الدمار.

تعانقت الأصوات في ذاكرتي كلّ التفاصيل أمامي حاضرة عدا صوت الإنسان، ودبيب حركة السّير، أغلقت نافذتي وأنا أشعر بالحزن على جمود الحياة، وعدتُ إلى مكتبتي لأتصفح شؤون الحياة وأخبارها من جهاز الـ(Ipad)؛ لكن تلك الأخبار ملأت جوفي قيحًا، فلا شيء تحمله سوى الحديث عن تفشي فيروس الوباء، وازدياد عدد الحالات، وتصاعد حدة الإصابات. لكأنني أقرأ مسرحية درامية جسدت عنف الواقع بامتياز، أو قصص متفاوتة المستوى ما يميزها أنّها جعلت للأشياء أرواحا وحكايات. كنّا إلى عهد قريب شعوب متخلفة لا تستطيع مقاومة دول السلاح اقتصاديا وسياسيا، دول تخوض حروبا ونزاعات، ومع الوباء أصبحنا في السّلة التي قلبت الحسابات، وكأن الجميع في مشهد مروع كجثة على تراب لحد في مقبرة جماعية.    

فكرتُ في معنى العزلة، في دلالة الإقامة القسرية داخل المنزل، وقارنتها بما نحن عليه مع جائحة فيروس كورونا (CoronaVirus).. تحسست يديّ، توجست من قشعريرة الفيروس كممرض يضمد جرح متألم، قبل أن يبتر الموت أصابعه. تذكرت أننا مازلنا أحرارا ولا ينقصنا شيء سوى مخالطة الصحب والأحباب، لا ينقصنا سوى العودة للانطلاق إلى الحياة.

أعود إلى مكتبتي، أعبث بالأشياء، ثم أتناول رواية كنت قد بدأت قراءتها متأملة السّماء، لا أرى سوى أشعة الشّمس، ولا أسمع إلّا دبيب الرّيح، وحفيف الأشجار.. فلا شيء يملأ الشارع سوى هياكل الشّرطة وسيارتهم لضمان عزلة الحياة وأمانها. واقفون بقفازاتهم وكماماتهم.. ألمح سيارة إسعاف تخترق الطريق الطويل دون صفارة إنذار. 

أعاود النظر للفضاء الفسيح أمامي لا دبيب الطائرات يشفع لي بعودة حبيب من أقاصي البلاد، ولا سيارة تقل الساكنين، حتى العابرين رحلوا عن تقاطعات الشارع، ونوافذ الأبنية تستجير القانطين من الجفاف. هالني منظر السكون الجمعي الجامد مع حظر التّجوال، وتنبيهات "الزم البيت" "ضع الكمامة" "ارتدي القفاز" كل هذا لتجنب كائن عجزت العين المجردة عن رؤيته، ويحاول الإنسان الحدّ من انتشاره للقضاء عليه حتى لا يفتك بالبشرية، ويكتب عليها الفناء.

وفي المساء يدنو الغروب رويدا رويدا دون رغبة في التحرر من الحياة، فيعم سكون بليد خالٍ من طقوس سمر الخلان.. أحاور القمر وحيدة سائلة عن النجوم التي توارت خلف شعاعه من صفحة عتمة السماء.. أسأله عن أهلي، عن أصدقائي، عن أحبابي، عن كل روح ألفتها وبتر وصلها فيروس الوباء.   

أجلس بسكون، أفكر في الحياة متأملة باب منزلي من الداخل، رأيت أشعة الشمس متناثرة من بين حوافه وأسفله، أشرعته بمصراعيه تأملت الفناء كل شيء ساكن حتى الأشجار الغافية على السور، تحسست يدي ارتديت قفازي وثبتُ كمامتي حتى لا يصيبني الوباء عند ملابسة الشجيرات والأزهار.. تأملت شجرة الرّيحان في فناء المنزل، انعطف ظلي عند شجرة الياسمين رأيتها كبرت وحان تشذيبها، اقتربت منها لأقطف بعضا من زهراتها، استوقفني طائر على غصنها، تركته غافيًا دون أن أزعجه، أغلقتُ الباب، وعدتُ أجلس عند حافة النافذة أراقب الحياة الساكنة دون انتظار محذرة صغاري من خطورة الوباء.

***

عندما يأتي قرار العزل لولاية عريقة، ولاية هي أُنس النّاس، ومأوى السّياح، ومطمح التّجار.. لا شك أنّ الشعور الذي ينتابك موجع مؤلم فحواه من عظائم مسار تطور الحجر للحدّ من انتشار فيروس الوباء. فتنساب من مشاعرك الكلمات..

مطرح العراقة والتّاريخ والأصالة والجمال والحسن والأحلام والحب
مطرح عشق البحارة والسّفن
يا حلم الطّفولة، وأهازيج الفرح
يا عروس البحر، وإكليل الجبل
يا قلب عُمان النابض بالبهجة والمرح...
ستعودين قريبًا حسناء بهية، جميلة شهية كما كنت وأجمل لا تحزني، لا تقلقي، ستشرع نوافذك، وتفتح الأبواب، ستزدان شوارعك، وستضاء أزفتك، وتهدأ أمواج بحرك، ويلتحف فضاؤك بالصّحة والعافية والأمان، سنحكي بين جنبات سوقك العتيق الحكايات والأساطير.
ستعود الحياة، وتدب بين ربوعها بإذن الله
‏ستتعافى واجهة عُمان
‏تلك الشّامخة بقلاعها
‏وبشوارعها النّظيفة
‏وسوقها القديم
‏وسور اللواتية
‏وميناء السُّلطان قابوس
‏والكورنيش وفلك السلامة.

والشّاطئ المزدان بالتّاريخ العريق
افتحوا نوافذكم يا أهلها للأمل، ففي طيّات المحن منح.

ويأتي خبر بعد أيام قليلة، وتقرأ عبارة "إغلاق مسقط" بالخط الكبير والغامق والعريض على صفحات الجرائد الإلكترونية، فهذا أقسى وخز الألم حين ينتاب مشاعر المواطن.

يا مسقط العامرة بالحياة، بالحب، بالخير، بالجمال... كوني بخير! أيّتها الفولاذية التي أكسدها الحزن.. أبدًا لستِ وحدكِ، فالجدار الصّلد سندك!

وبينما أرثي الحياة

تتراقص دموعي في محجري

على مسقط الحب والروح

على مسقط الجمال والبهاء

الغيم يكفكف دمع القلب

الوباء لا يقينا هم الغد

بل يسرق منا جمال اليوم

كوني معافاة أيتها العروس الفاتنة

كوني بصحة أيتها الأرض العامرة

كوني بخير يا نبض عُمان الزاهرة

كوني لنا أما حاضنة

***

كوفيد19
‏ماذا فعلتَ بنا؟
‏كلّ شيءٍ توقف
‏مُلغى، محظور
‏تفاصيلنا في
‏خندق العزل
‏أحلامنا في
‏ملاذ الحجر

‏كوفيد 19
‏النّوافذ مغلقة
‏الأبواب موصدة
‏الجدران عالية
‏الخوف تملكنا
‏فلا توقف الحياة

‏كوفيد19
‏الليل يسرق المتعة
‏الطريق موحش
‏القمر مظلم
‏الصّباح يقتل الرحمة
الشّارع صامت
‏النخيل دامعة
‏ونحن ننتظر الرّبيع

كوفيد19
مازلنا بين الوجد والفقد
قف، لا تتناسل
لا تقتل الحياة
ما زلنا نحمل غرسنا
لتنتشي الأرض
وينعم الإنسان
ما زلنا نحلم بالقادم
لتزهر الأرض
عبيرا وياسمينا