الحضارة البشرية تمر بمرحلة التغيير والانتقال

 

حميد بن مسلم السعيدي

منذ وجود الإنسان على سطح الأرض، وهو يُكافح في سبيل العيش بسلام واستقرار، يسعى من أجل توفير مصادر الرزق، بدءًا من حياة الكهوف والحياة البدائية القديمة التي عاش فيها الإنسان على ما يجد أمامه من طعام إلى حضارة حديثة يتعامل فيها مع الحداثة والتقدم والتطور في كافة مستوياتها، هذه الحداثة التي تختلف من حضارة إلى أخرى، إلى ما وصل إليه اليوم من تقدم تكنولوجي جعل من العالم الكبير قرية صغيرة.

خلال تلك العهود الماضية كان الإنسان يُجاهد في حياته، من أجل بناء ذاته ويستفيد من قدراته لتحقيق رغباته وأحلامه وطموحاته، فيكافح الحياة من أجل البقاء والاستمرار، ومع تزايد الشعوب تظهر الصراعات والحروب، وتحدث النكبات والكوارث الطبيعية، ولكن الإنسان يستمر في عملية البناء والانتقال من مرحلة حضارية إلى أخرى، هكذا هي طبيعية الحياة على سطح الأرض متغيرة دائمًا لا نعلم خفاياه إلا من خلال ما نقرؤه عن الحضارات والشعوب البائدة، أو ما نتخيله من مستقبل لا نعرف أحداثه. وفي ظل ما يتعرض له الإنسان اليوم من انتشار لجائحة كورونا التي تسببت في العديد من الإشكاليات في مختلف جوانب الحياة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وتسببت في حدوث خسائر مادية كبيرة، هذا الأمر كان له الأثر في قياس مدى قدرة الحضارة البشرية على الاستمرار في ظل وجود أمراض جديدة قد تظهر، مما يطرح تساؤلا: هل الحضارة البشرية تمر بمرحلة التغيير والانتقال؟ أما أنها مرحلة الانهيار والسقوط؟

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز "وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُ" (38)سورة محمد. وتفسير هذه الآية: إن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم. به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه"، جاء هذه النص القرآني ليؤكد حقيقة الزوال من على سطح الأرض، بل وذكر العديد من القصص عن الأقوام البائدة التي أزيلت وانتهاء عهدها ولم يبق منها إلا الآثار التي تدل على وجودها، ويُحدثنا التاريخ الإنساني أن هناك مراحل فاصلة في الحضارة البشرية، تصل فيها الحضارة إلى مرحلة متقدمة من التطور بصورة تحقق معظم رغبات الإنسان بغية تحقيق السعادة، ويصل إلى قمة العطاء والإبداع والابتكار، ثم ما تلبث أن تنتهي وتتلاشى وتبقى آثار قديمة، هذه الفرضية يمكن قراءاتها من خلال التعرف على العديد من الحضارات البشرية القديمة التي عاشت مراحل متطورة، واكتسبت العديد من الخصائص وتوصلت إلى الكثير من الابتكارات التي عجز الإنسان المُعاصر عن التعرف عليها أو قراءة رموزها وفهم معالمها، سواء أكانت الحضارات التي ذكرت في القرآن الكريم، أو الحضارات التي تركت آثارا تدل على وجودها كالحضارة الفرعونية في مصر، وحضارات بلاد الرافدين، والحضارة الرومانية، وحضارات بلاد السند والصين، والممالك التي ظهرت في شبة الجزيرة العربية، وحضارة الإنكا والأزتيك والمايا في أمريكا الوسطى والجنوبية، عاشت مراحل متقدمة وتمكنت من التحكم في مناطق واسعة من العالم.

خلال تلك العقود القديمة تمكن الإنسان من تأسيس حضارات مُتقدمة ومتنوعة في الإمكانيات والقدرات والمكتسبات وعاش في مواقع مختلفة من العالم، ولكن ما يُميز هذه الحضارات أنها لم تقم في ذات الفترة وإنما نشأت وقامت في مناطق متباعدة وفي أزمنة مختلفة، ذات صفات وخصائص وإنجازات مختلفة، ولكنها سقطت في ظروف غامضة، ولم يعرف مصير شعوبها، وكيف أختفى وجودهم، بل إنَّ النظريات التي صيغت حول نهاية هذه الحضارات ظلت نظريات في ظل غياب الحقيقة على ما حدث لبعض تلك الحضارات؛ والأمر الذي يدعونا إلى قراءة الواقع الحالي والحضارة التي توصل إليها الإنسان في العصر الحديث، لذا فإنَّ التفكير في فرضية انتهاء عهد هذه الحضارة وزوالها قائمة في ظل انتشار جائحة كورونا كمرض حديث تمكن من الانتشار بصورة سريعة وغير العديد من المفاهيم والمصطلحات الحديثة، بل وكشف العديد من المغالطات، وأسقط العديد من المواثيق والعهود والاتفاقيات بين الدول، وأصبحت الإنسانية تمر بمرحلة من التغيير، فهل هذا يقودها إلى السقوط؟

الأمر لا يرتبط بإشكالية كورونا في الوقت الحاضر ولكن يرتبط بقضية مدى مقدرة الإنسان على مواجهة الأمراض التي تتطور مع التطور البشري؟ مما يعجز الإنسان عن مواجهتها أو بالحد من انتشارها، فقد أدت الإجراءات الاحترازية إلى تحييد وتقييد حركة الإنسان وتنقله من مكان إلى آخر، وإيقاف العديد من المناشط الاقتصادية التي توفر الدخل للأفراد والحكومات مما أدى إلى خسائر مادية كبيرة جداً، في الوقت الذي ما زال هناك تزايد في أعداد الإصابات بين شعوب العالم، مع عجز الإنسان عن ابتكار علاج لهذا المرض؛ كل هذه المعطيات والدلالات ترجع الحقيقية الأزلية منذ ظهور الإنسان على سطح الأرض أن عملية الاستمرار تتحكم فيها ظروف وقدرات خارج نطاق القدرات التي يمتلكها الإنسان، وأن الأمر كله يرتبط بالله عز وجل خالق هذا الكون، والأمر بيديه في بقاء الإنسان وزواله من على سطح المعمورة أو استبداله بحضارة أخرى، مما يحجم القدرات البشرية ويُعطي لها حجم يتناسب مع مرحلة الغلو والتعالي التي وصلت إليه الحضارة الحديثة، وفكر الإنسان المتطرف.