"يَومَئِذٍ تُحدِّثُ أَخْبَارهَا"

د. شريفة بنت علي القاسمية *

* خبيرة بحوث ودراسات

منذ فجر التاريخ والحروب تقاد على أرض تسوقها الأقدار لتكون موعدا لفناء الكثير من دروعها البشرية جراء ويلاتها ومن أجل عقيدة يؤمنون بها؛ وتطورت ليصبح فتيلها تحالف مؤسسيها؛ وشرارتها أسبابا اقتصادية؛ وحطبها أسبابا جيوسياسية؛ سعيا منها لتغيير خارطة العالم؛ متسلحة بالدبابات والقنابل الثقيلة والألغام والمقاتلات البرية والجوية والغواصات البحرية، منتهية بحاملات الطائرات وقنابل ذرية وأسلحة نووية فتاكة ذات دمار شامل؛ بالسليقة لم نشهدها لأن أقربها انتهى قبيل منتصف القرن الماضي. ولكن كانت مخيلتنا هي الشاشة التي رأينا فيها حروبا صنعها ذلك الإنسان فاتخذت من الأفلام الوثائقية شاشات بديلة عن التاريخ؛ لنتخطى بها حدود الزمان والمكان، ونسافر بها عبر تاريخ الشعوب والحضارات. فاعتادت مخيلتنا أن ترسم تلك الحروب بمنظورها الفوضوي، وأدركنا جليا مع المسلمات أنها انتهت. حتى تلك الحرب الحديثة العهد، التي مرت بخمسينيتها على حدود أرض اللبان لم ندرك ماهيتها كعقول أفاقت على خيرات الطبيعة بحكم رخاءها واستقرارها.

وبلا هوادة، أخذتنا محركات الحياة ليصبح روتينها هو قوتنا اليومي؛ إذ اعتدنا سلاما زرعته بلادنا كسلاسل من العقود القديمة أبرمتها هجرات السفينة سلطانة وطريق الحرير وتاريخ إمبراطورية مزدهرة. وقدوة بأسلافنا؛ اتخذنا من طموحاتنا موطنا لتوطيد إيماننا بوضع بصمتنا التنافسية ومؤشراتها على خارطة الكرة الأرضية واقتصادياتها المتحولة إكلينيكيا.

وبلا موعد، رحل أبي يا وطني، لقد رحل دون أن يلقي كلمته الوداعية، دون أن يتمتم لنا بتكتيكة الحرب، لم تقل لنا يا أبي أنَّ ناقوس الخطر سيأتي؛ لم نتسلح كما أردت أو ربما كنت تزرع فينا ذلك المحارب يقينا؛ ونحن لا نشعر. لقد اعتدنا الدلال لأنك كنت الحارس لهذا الوطن، ذهبت وتركت شقوتنا لنا؛ ونغمات الهلال هي من ترأب مسامع الجيران. وجاءت ساعة الصفر وحانت المعركة، ولم نعد ندرك من فرط الغياب أننا نحمل أسلحة الصمود، وأن جاهزيتنا هي المحك للفوز رغم أننا لم نتهيأ لإدارة حرب خفية تدار في الهواء كأشباح تطايرت هنا وهناك، ولكن الوعد بأن نجاهد ونحارب بات يسكننا من أجل الوطن الدي زرعته فينا... لنكمل صناعة الملحمة.

لقد راهنت يا أبي علينا بأننا سنكمل المسير ونحمل القلم والممحاة والمداد، وعادت نزعتنا وأفقنا على ناقوس الخطر فبات علينا الهرولة لأجل تراب رويناه معا وزروع نمت كورود، وبدأنا نستشعر بالصدمات الكهربائية تهز شعيراتنا الهوائية؛ وجهازنا التنفسي يستعطفنا للدفاع عنه، وتسلل فينا ذلك الشعور خلسة ليقول إنها الساعة لقد حان دورك أيها العماني لإثبات هويتك ولإبراز انتماءك وصمودك.

سمعا وطاعة يا أبي، سأجلس في وطني الصغير، سيكون دفاعي المستميت، سأكون خط دفاعه الأول ولن أسمح بتلك الترسانة بطرازها الجيني لاستعمار خلايا جسدي، بجاهزيتي سأقاتل، ولن أسمح لكائن ليس له كينونة أن يخترقها لأهدافه التكاثرية، ولن أسمح له أن يستبيح مساحات شراييني وأوردتي والتسلق على كريات دمي الحمراء. سأكون بذلك الصندوق الذي اتخذته منزلا وقاعدة السلام سأشن أسلحتي وذخيرتي الحية من أجلك يا وطني، وأرفع توربينات مناعتي لأشحذ قوتي صرامة وعزة وإباء.

سلامة بيتي هي سلامتك يا وطني؛ لقد رأيت حراس الوطن مستنفرين بأسلحتهم، والشرطي يصفر بصفارة أمانه، والمذيع اتَّخذ مذياعه كمقصورة يتغنى منها ليعزف تلك السيمفونية التي تشحذ بالهمم، وذلك الجندي بلباسه الملائكي يترأس أسطوله الثلجي؛ لقد ملأ صوته كل بقاع الأرض ليضحي بكل ما يملك من أجل عقيدته العصماء ألا وهي الوطن؛ ودعائك يا أبي ما زال يرتحل بين أرضنا وسمائك.

فلا تقلق يا أبي، سنعود لصفوف الدفاع، وسنجابه ونحارب من أجل من نحب؛ من أجل أن يبقي الصغير يلعب بأدراج ألعابه، والطالب يعود لكتابه، من أجل أم عظيم سلاحها صلواتها الخمس لوطن يحمل في أحشائه أبنائها، وأب لم يكن همه وخبزه إلا أنت يا وطني، وجدي وجدتي بسليقتهما الطيبة ينتظران أن تجود عليها الأرض بزخرفها كما اعتادت؛ وحتى تضع الحرب أوزارها سنتخذها مسجدا ومدرسة وقاعدة حربية، لنصلي بعيد الفطر سويًّا. وسنبقى بها يا أبي حتى يحدثك وطني بأخبارنا.