"كورونا".. وإشراقة الرأي الآخر

د. شريفة بنت علي القاسمية *

كوجهة نظر، يبدو أنَّ فيروس كورونا جائحة تشاؤمية تعصف بالأخضر قبل اليابس، وقدومها سيفتك بالبشرية؛ فاستجمع المنظرون أقلامهم للبدء بإلقاء ظلال أفكارهم المتباعدة على ما يحدث، وأخذ المتنبئون يستشعرون بطول هاماتهم، وتناثرت تفسيرات وتأويلات بعضها علمية ومقبولة، والبعض الآخر مجرد غيض من فيض، وبدأت حواسنا بالاستنفار وتَلَمُس كل ما هو معني بهذه الجائحة، وأصبحت ذرات أفكارنا وجزيئاتها تتفاعل نحو هذا الفكر المحموم، وعادت تنبؤات زرقاء اليمامة في بصيرتها الثاقبة تلقي بظلال الرعب علينا.

ومن باب شحذ الهمم وجدنا أنَّ العلم بدأ يقف وقفته الصادقة والتفاؤلية ليقول هذا ما كنا ننتظره من نتائج؛ فبغضِّ النظر عن انخفاض أسعار النفط وتلازمها مع الركود الاقتصادي أو بالأحرى الاضطراب الاقتصادي المتصاعد في هذه الآونة وقبلها، والمنطلقة منذ بدايات هذا القرن بتأثيره المتفاوت عمقاً على العديد من الدول، نجد أن المتسابقين في ميدان العولمة بدأ تنظيرهم بالانحسار جليًّا؛ وذلك قبيل استفحال الأزمة لتستيقظ فيهم تلك الأنا بتصريحهم علنًا: إننا سنعود لرسم الحدود وترسيم سياستنا وإعادة ترتيب أولوياتنا، وسنبدأ باكتشاف جغرافية أنفسنا، وسنعلن وحدتنا وترابطنا المحلي تضاريسيًّا. وفي خضم هذا الهذيان تسارعت أبحاث ورؤى العلماء لتروي ظلال أحلامٍ كنا نهمس بها من بعيد.

ففي حديث أعلنته قناة بي.بي.سي الإخبارية -نقلاً عن الباحثين والعلماء بوكالة الفضاء الأمريكية ناسا والوكالة الأوروبية البيئية- في مطلع هذا العام، أنها بدأت تستكشف جودة الهواء لتستبشر وتنبئ العالم والمهتمين بالبيئة والمناخ بأن مستويات التلوث الهوائي والغازات الدفيئة التي ملئت سماء بعض البلدان المتضخمة اقتصاديًّا وصناعيًّا تراجعت تراجُعاً حادًّا بسبب تأثير تفشي الجائحة. فأوضحت الوكالتان عند التقاطهما لصور الأقمار الصناعية لطبقة التروبوسفير بالغلاف الجوي المتأثرة بالتلوث الهوائي عن انخفاض حاد لانبعاث الغازات الدفيئة؛ مثل أول أكسيد الكربون بما يقارب درجة النصف مئوية، وثاني أكسيد الكربون إلى معدل 5-10%، إضافة إلى انخفاض مستويات غاز الميثان المنبعث من الأنشطة الصناعية ووسائل النقل المختلفة. وترجح كذلك انخفاض انبعاث الغازات المستخدمة في الطاقة، وكذلك نزول واضح بنسبة 5% من انبعاثات الكربون ومشتقاته. وأظهرت صور الأقمار الصناعية تراجعًا قياسيًّا في معدلات انبعاث غاز ثاني أكسيد النيتروجين الذي انحدر متفاوتًا بين مدينة وأخرى إلى 24-55%. وعلى حد تقدير العلماء، فإن مايو المقبل سيشهد انحساراً أكبر في الغازات الدفيئة والسامة مع تداعي الأزمة؛ مما سيخلف نتائج إيجابية ملموسة على الكتلة البيولوجية ليكون عائدًا حيويًّا تحلم به الطبيعة لتغذيتها عضويًّا، هذا فضلاً عن اتزان السلسة الغذائية المعتلة.

كلُّ ذلك يعزو إلى انخفاض مستوى الازدحام المروري بنسبة 35% في شوارع المدن الكبرى المتأثرة بالجائحة أفقيًّا ورأسيًّا وأخرى مُجتمعة؛ هذا فضلاً عن توقُّف نشاط المنشآت الصناعية وإيقاف حركة الطيران تدريجيًّا؛ مما أثر على حركة السفر والسياحة، وبالتأكيد على قطاع الأعمال قاطبةً. ومع تراجع أسهم الأنشطة الجائرة بالطبيعة بدأت النزعة الإنسانية بالظهور كإرغام الشعوب نحو الجلوس في المنازل واتخاذها كقواعد دفاعية تأييداً لنظرية التباعد الاجتماعي، وتحقيقاً لممارسة العمل عن بُعد بأمان؛ توفيراً للجهود مجتمعة من أجل حفظ النوع البشري.

وبعد إعلان العلم كلمته؛ ألا يدعونا ذلك للتأمُّل والتساؤل؟ هل هي ابتهالات الطبيعة وتسبيحاتها الفجرية لرب الأراضين السبع وسماواتها لتعود كأمٍّ حنون تقوم بدورتها الطبيعية لتغدق على الإنسان بحلو العطايا وأجملها؛ أم هي شرارة الإنذار في همستها له: ألا يكفيك استنزافاً؟ ألا يكفيك اختراقاً لناقوسي؟ فتحديداً وبلا تردد نستطيع القول جدلاً بأن الطبيعة الأم في طريقها ربما للتعافي مما أَلَّمَ بها من إسفافٍ واضح على مدى القرن الماضي. فانحسار انبعاث الغازات يبعث بالطمأنينة في محاولتها لانتشال نفسها ولو مؤقتاً من مغبَّات الانهيار وتجدد حيوتيها ونضارتها. وسيظل السؤال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: هل ستكسب الطبيعة الأم رِهَانها هذه المرة وتجهز احتفاليتها بيومها الموعود ألا وهو يوم الأرض المقبل؟ أم أنها استراحة محارب لكلا الطرفين؟

 

* خبيرة بحوث ودراسات بوزارة التعليم العالي