العهد والولاء

 

د. شريفة بنت علي القاسمية

بدت المشاهد تتراءى لنا تترى، فتداخلت وتآزرت في روعتها قبل غرابتها، بتناغمٍ وانسيابية تسلبُ الألباب وهي تنقل صورة مشهدٍ حي لتسامي وطن وتفردهِ رفعةً وعلوا. ورغمِ تلك المحاجر المتألقة بأِنهارِ الحُزنِ إِلّا أن ساعةَ الصِفرِ أبت إِلّا أن تتسللَ بيننا؛ كإشارةٍ لدخولِ اختبارٍ لم نعهدهُ مِن قبل؛ فقد اعتادت أرواحُنا قبل أجسادِنا على نعيمٍ لم يشهده أسلافنا البتة.

وتوالت التساؤلات بدواخلنا؛ هل نحنُ في مرحلةٍ انتقالية أم تخطيناها؟ هل حقاً اجتزنا ذلك الاختبار؟ أم لبثنا عُمرا؟ لا وبالله؛ لقد كانت مجرد سويعات، لا بل لحظات؟ وكأنه عصفٌ ذهني يشطرُ آذاننا وأعيننا واحداً تلو الآخر، فَبِتنا لا نستطيعُ الإدراك؛ هل كان صموداً أم شموخاً؟ فما هذا النهج الذي توحد بيننا؟ أصواتنا، بكاؤنا، خوفنا، صمتنا، ارتفاع حرارة توقعاتنا بهدوئها الجبلي المخضر، وانبساط مشاعرها السهلية، وزرقة أمواجها بمدها وجزرها. وحتى الانتظار لم يجد له مكاناً بيننا، فقد تسارعت بنا مآذنُ الطاعة، وتسامت أرواحُنا، وانقادت مسامعنا اللاموصوفةِ سراً لإنجاز المهمة الأصعب.

فجاء الحدث الأكبر بتوحدهِ وسلاستهِ وحِكمتهِ وشفافيتهِ وتوقيتهِ كشريطٍ سينمائي تمَّ إخراجهُ وإعدادهُ ونمذجتهُ بكل الاحترافية والعظمة ضارباً بالتوقعات عرض الحائط، وبكل العزم أتقّنا الولوجَ به كصفائحَ ذهبيه اُختِزلت لتصهر كل نرجسية وكل غياب وكل ذهول وكل صبيانية. وحتمياً بدلتنا الأيام، وحارت بنا السبل وتساقطت حيرى تلك الأشواك المجنونة المترامية بكل الحمق على قارعة الطريق. وبدأنا نتقن أنه يمكننا أن نشق طريقنا بكل الحرية، وبكل الثقة نكمل رسم خريطته الحدودية؛ فعلمتنا حروبه ألّا نخضع وألّا نستسلم إلا لمن أراد هو بذلك. لقد تشربت شرايينا بذلك الميثاق الشرعيّ وضخته في حجيراتها الأربع لتصيغ حبلاً من الترابط الأبدي بين إيمانهِ بنا وبين ولائنا له.

وفي غمرةِ استنشاقِ عبيرَ دروسهِ، وفي سكرة النعم لم نعد نعي ضمنياً أننا نسلك خارطة طريق رسمتها الخمسون عاماً لنا؛ ورغم أننا كنا نتغنى بها لم ندرك حينها أنها بالتعودِ حباً تمكنت منا. فعدنا لنتلو شطرَ حديثنا ونتساءل: ما هو سر هذا السُّمو الضارب أعماقهِ جذور الأرض؟ هل هو الإكسير الذي ارتشفناه معاً عند مولدنا؟ أم أنها تلاواتنا المخطوطية التي استقرت حرفياً بأذهاننا؟ فلم نشعر حينها ونحنُ تحت أُبوتِهِ أننا نرتشفُ تعاليم حياتنا؛ وأننا كنا نستلهمُ منه آنذاك فنون العيش والسلم والنجاح.

ويقيناً أدركنا أننا جميعاً كنا نخوضُ حرباً شرسة من أجلِ عُمانَ وسيادتها، ومن أجل أن يبقى اسمَ قابوسها ومدرستهُ منارةَ علمٍ لكلِ قاصد. نعم لقد نجح وبجدارةِ الاستحقاق أن يُكّونَ فينا ذلك الإنسان ذي الأقطاب المتضادة من شمالها لجنوبها، وأن يتخطى بنا حدود الزمن، وأن يَعُبر بنا مسافاتٍ لا حدودَ لها، ليقول لأقطاب الكرةِ الأرضية نحن وبكل عزمنا أصبحنا هنا.

واستكمالاً لرحلةِ السلام وفي إشراقةِ وداع، حلَّقّت زاجلاتُ الحمام برسائله المتجهة عمانياً بطيات رسائلها ذات الشمع الأحمر لتبشر بعهدٍ قادم، برؤيا 2040؛ كشعلةٍ من النور يقودها سلطانٌ يحمِلُ في قلبهِ وطنا بحجم قابوس بن سعيد. وفي محراب الطاعة انقادت أرواحنا فداءً لتلك الوصية.

سيدي؛ سيسودُ العالم وفاؤنا وفخرنا لمن اخترت وأوصيت؛ ليس لأنها وصيتك فقط بل لأنها تحمل عطر الماضي الذي يتجدد فيك، وأملُ الحاضر وسناءه الذي يشرق باسمك؛ وستصلك أخبارنا لتقول: بأن جبينك الذي شق غبار تلك العقود الخمس، وجسدك الذي أرهقته تلك السنون قد أثمر وأينع بكل الطموحات وزُخرُفها. فنعم المآلُ سيدي ونعم الأخبار ستُزف إليك. فقد أحسنتَ صنعك فينا؛ فما عدنا نهاب فقد سكنت أسود الصمود فينا شراسةً وكبرياء، ليس لأننا أبناؤك فقط؛ بل لأنَّ الدرس أبلغَ من أي حكمة، وأعظمَ من أن يُصاغ؛ فشكراً سيدي لأنك صُنتنا حياً وميتا، وشكراً لأنك أسّسّت تيجانَ الفخرِ فوق رؤوسنا، وشكراً لأنك مضيت وبكل رفقٍ احتويتنا، وشكراً لأنك ألهمتنا كي نكون جيل المهمات الصعبة، وشكراً لأنك منحتنا القوة والعزم لكي نجدد العهد مع سلطاننا.